تجري العادة في نهاية كل سنة أن تقوم وسائل الإعلام المحلية والعالمية، المكتوبة والمرئية والمسموعة، الصغيرة والكبيرة بتلخيص الأحداث الهامة التي حدثت خلال تلك السنة وتحليل عواقبها وتأثيرها على السنة القادمة. بعض وسائل الإعلام العريقة تختار شخصية السنة في كافة المجالات وتسهب في تحليل وتقييم أعمالها التي من أجلها استحقت أن تكون شخصية مختارة. وسائل إعلام أخرى تختار الحدث المركزي في تلك السنة، الذي ألقى بظلاله الثقيلة على تطور السياسة العالمية وتشبعه دراسة وتحليلا. بما أن نهاية هذه السنة لا يبشر بقدوم سنة جديدة وحسب بل يشير على انقضاء عقد من القرن الواحد والعشرين فبعض وسائل الإعلام العريقة تتيح لنفسها تناول عقد كامل من الزمن بالدراسة والتحليل والتعليق.
طبعا مقالة صحفية متواضعة كهذه لا تدعي أبدا تقييم أو دراسة أحداث العام المنصرم فكم بالأحرى العقد المنصرم ولن تتناول التوقعات للعام القادم الأمر الذي اتركه للمنجمين على اختلاف مشاربهم، من منجمي القنوات الفضائية إلى مشعوذي السياسة الذين يدفعون بكرتنا الأرضية نحو الهاوية. أكتفي هنا ببعض الخواطر النابعة عن غضب شديد على كل شيء تقريبا من جهة وعن خيبة أمل بكل ما كنا نتمسك به من مبادئ وقيم وأحلام من جهة أخرى.
اسمحوا لي أن أبدأ بعارنا المحلي على الصعيد الرياضي، أو الأصح أن نقول على الصعيد اللارياضي، وأعني الأحداث التي أعقبت مباراة كرة القدم بين فريقي سخنين والناصرة. ليس جديدا أن يقوم كل طرف بتبرئة ساحته وإلقاء التهمة والمسؤولية على الطرف الآخر. التبريرات التي لا تعد ولا تحصى موجودة لمن يريد أن يتناولها. وليس غريبا أن يقوم كلا الطرفين بإلقاء الكرة إلى ساحة الشرطة ويلقي عليها مسؤولية ما حدث وتبييت النية لتأجيج الخلاف بين الأشقاء والكيل بصاعين، الخ. وهكذا تضيع الطاسة.
ما حدث بين سخنين والناصرة، ولا أريد أن أقول بين نفر من الشباب الضائع من كلا الطرفين، هو صورة مصغرة لما حدث مؤخرا بين مصر والجزائر. وكل ما قيل وما كتب في تلك الحادثة هو ساري المفعول هنا أيضا. وقد قيل الكثير وكتب الكثير حول قلة الوعي عند الجماهير وسوء النية عند الطبقات الحاكمة التي استغلت هذا الحدث الرياضي لتمرير سياستها الرجعية المهادنة للغرب من جهة والمستبدة على شعبها والشعوب الشقيقة من جهة أخرى. لا يستطيع أي علم نفس أن يفسر كيف يصبح بلد عريق كمصر شرسا إلى هذه الدرجة بسبب مباراة كرة قدم زعم إنها مست كرامته الوطنية وفي الوقت نفسه يتصرف كالقطة الأليفة أمام إسرائيل التي تدوس على كرامته القومية كل يوم. ولا يستطيع أي علم نفس أن يفسر كيف يقف بعض الإفراد على دوار الشهداء في سخنين احتجاجا على جرائم الدولة في غزة بينما يشيح الكثيرون من العابرين بوجوههم، ويصبحون حيوانات مفترسة بعد مباراة كرة قدم بحجة إنهم لم يعد يطيقون الشتائم التي سمعوها من الجمهور الآخر.
في مصر والجزائر وفي سخنين وفي الناصرة، كلنا نعاني من المرض نفسه اسميه: انعدام المناعة الأخلاقية.
كلما تكلمنا عن الأخلاق، بغض النظر عن تعريفنا وفهمنا لهذه الأخلاق، كلما ابتعدنا عنها أكثر. لن يفيدنا بشيء تكرار البيت القائل: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا. أو: إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا. أو هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات. وعشرات الأبيات والحكم التي تنضح بها مواعظنا وكتبنا التدريسية. لن نستفيد شيئا لو صعد أحد الأئمة كل يوم جمعة المنبر وردد الآية: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" بينما فظاظة كلماته وأعماله خارج المسجد تصل إلى السماء.
إذا عرفنا الأخلاق بأنها مجموعة من القيم والمبادئ التي تضبط وتوجه سلوك الأشخاص والشعوب وتكون شكلا من أشكال الوعي الإنساني وحاولنا أن نطبق ذلك على ما يحدث في غزة على سبيل المثال لا الحصر، فإننا كمجتمع إنساني في ورطة لا مخرج منها. ورطة كافية لأن تشوه وجهة البشرية إلى حد عدم التعرف عليه. وهنا لا اقتصر على دولة إسرائيل التي شنت حرب إبادة على أهل غزة وفرضت حصارا لا يعرف الرحمة عليها، ولا اقتصر على ما يسمى بالمجتمع الدولي والأنظمة العربية بسبب التواطؤ والمساهمة في هذه الحرب وهذا الحصار بل أقصد كل فرد ينتمي إلى الجنس البشري. إن ما يحدث في غزة اليوم هو وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء.
لقد كتبت في الأسبوع الماضي عن تقصيرنا المخزي في نصرة أهل غزة. واليوم أريد أن أوجه عتابا شديد اللهجة إلى جميع الذين يذرفون الدموع على ما يجري في غزة ( ولا أقصد من يذرف دموع التماسيح، فهؤلاء لا يهمونني بالمرة) وأقصد بشكل خاص الناشطين في الحركات الشعبية لكسر الحصار ومنها قافلة شريان الحياة التي يقودها النائب الانجليزي جورج جلاوي والتي قطعت آلاف الأميال من بريطانيا عبر دول عديدة في أوروبا وآسيا حتى وصلت قبل عدة أيام إلى العقبة وهناك منعتها السلطات المصرية من الوصول إلى ميناء نويبع ومن ثم إلى قطاع غزة عن طريق معبر رفح. وهم يعرفون جيدا أن النظام المصري عبد مأمور لا يملك قراراته، مهما حاول أن يتقنع بقناع السيادة على أراضيه ومعابره. ولكن بما أن مصر هي الحلقة الأضعف تحاول قوافل كسر الحصار الوصول إلى غزة عن طريق مصر مع علمها أن إسرائيل هي القوة الرئيسية التي فرضت هذا الحصار. اليوم سمعنا إن قافلة شريان الحياة تعود القهقرى إلى سوريا ومن ثم إلى العريش حسب مطالب النظام المصري. العقبة لا تبعد عن إيلات سوى عدة مئات من الأمتار وعن طابة وشرم الشيخ والطريق المؤدية إلى رفح سوى عدة أميال. فلماذا يجبن جميع المتضامنين الأجانب عن مواجهة إسرائيل؟ لماذا لم تحاول القافلة اختراق الحدود المصطنعة إلى فلسطين المحتلة وهي اقصر الطرق للوصول إلى غزة؟ العالم بأسره يعلم أن كسر الحصار الإجرامي عن غزة لا يمكن أن يتم من غير مواجهة إسرائيل وإرغامها على ذلك؟ النوايا الحسنة والشعور بتأنيب الضمير من قبل بعض الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين لا ولن تكفي لكسر الحصار.
قد يستنكر البعض هذا الموقف ويعتبرونه جحودا، حسنا، فليكن. ولكن لم يعد هناك مكان للف والدوران، بحجة إنقاذ إسرائيل من نفسها.
الطريق إلى غزة تمر في تل أبيب.
No comments:
Post a Comment