ألارض - ذكريات وخواطر
علي زبيدات - سخنين
ها هي الذكرى ال42 ليوم الأرض تداهمنا من غير استئذان. من كان شابا في ذلك اليوم مثلي أصبح اليوم كهلا أو عجوزا هذا إذا لم يكن قد قضى نحبه. صبايا وشباب الجيل الحالي ولدوا بعد يوم الارض الاول ومعلوماتهم عنه لم تأت من مصدر مباشر بل جاءت من الأقارب أو من الآخرين أو مما قرأوه حول هذا الموضوع. وبذلك يكونون قد عاشوا ذكرى يوم الأرض وليس يوم الأرض نفسه. وكما هو معروف يوجد هناك فرق بين الشيء وبين ذكراه، بين يوم الارض وذكرى يوم الأرض. وغالبا ما يكون الفرق شاسعا. عندما نقول: الاسبوع القادم يوم الارض أو غدا يوم الارض نقول ذلك من باب المجاز وليس الحقيقة.
في يوم الارض الاول، كنت أقضي محكومية من ست سنوات في سجن الرملة. لذلك كانت مساهمتي وباقي الاسرى متواضعة جدا تكاد لا تذكر، واقتصرت على عدم تناول الطعام وعدم الخروج للنزهة اليومية ومدتها ساعة واحدة في ساحة السجن، وفي المساء كانت هناك نقاشات حول الأرض داخل الزنازين. كانت معلوماتنا عما حدث في يوم الارض ضئيلة جدا، مستمدة حصريا من بعض وسائل الإعلام الاسرائيلية الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت (جريدة عبرية ونشرة أخبار في التلفزيون الاسرائيلي). بعد أسبوعين فقط خلال زيارة الاهل، علمت أن بنت خالي خديجة شواهنة وهي من جيلي كانت من بين الذين استشهدوا.
يوم الأرض الأول الذي شهدته شخصيا كان في عام 1982 أي بعد مرور ست سنوات على يوم الارض الاول. وقد لمست أن روح يوم الارض النضالية ما زالت حاضرة ومهيمنة على الأجواء خصوصا بين الشباب. حيث كانت الشرطة، قبيل يوم الارض بايام، تلاحق بعض الناشطين وتعتقلهم اعتقال استباقي. وكان تواجد الشرطة على مشارف البلد الذي يستضيف النشاط المركزي مكثفا وكثيرا ما كانت تمنع دخول أو تعتقل متضامنين جاؤوا من قرى أخرى. أما على المستوى الرسمي فقد كان التقهقر واضحا. كانت لجنة الدفاع عن الأراضي تلفظ أنفاسها الاخيرة بعد أن أنهكتها تناقضاتها وصراعاتها الداخلية وبعد أن قررت الاحزاب والحركات السياسية ورؤساء المجالس المحلية برعاية تشجيع من المؤسسات الحكومية تصفيتها نهائيا. في السنة نفسها انبثقت لجنة المتابعة العليا التي أخذت على عاتقها، من ضمن ما أخذته، جميع مهام لجنة الدفاع عن الأراضي. وأظن أنه بعد اربعة عقود على وجود هذه اللجنة الجديدة - القديمة يمكن الجزم بأنها فشلت في أن تشكل بديلا أفضل. ولكن هذا موضوع آخر. بالاضافة إلى ذلك وجدت صراعا شرسا بين الاحزاب والمجموعات المختلفة على إرث يوم الارض: كان الكل يدعي أنه هو الذي فجر وقاد يوم الارض وينفي دور الآخرين. تمشيا مع المثل الشعبي الذي يقول للنجاح ألف أب بينما الفشل يتيم.
في بداية سنوات الثمانين عادت الروح النضالية ليوم الأرض لتنتعش من جديد، ولكنها لم تصل أبدا إلى ما وصلت إليه في اليوم الأول. وكان السبب الرئيسي لهذا "الانتعاش" هو أن دولة إسرائيل اضافت إلى رصيدها جريمة نكراء جديدة هي مجزرة صبرا وشاتيلا. ولكن سرعان ما عاد الروتين "النضالي" ليسيطر على الساحة من جديد. واقصد بالروتين النضالي: إحياء الذكرى بمسيرة هادئة (تحت رعاية التنسيق الأمني بين الشرطة والزعامة الرسمية) ومهرجان خطابي. الاستثناء الوحيد كان يوم الارض عام 2000 الذي تم تنظيمه للأول مرة (وآخر مرة) على أراضي سخنين الواقعة تحت نفوذ مجلس اقليمي مسغاف والتي أعلنت السلطات عن نيتها اقامة معسكر عليها. كانت النتائج صادمة للطرفين: الحكومي والرسمي العربي. فلم يتوقع أحد وقوع اشتباكات وصدامات راح ضحيتها آخر شهداء يوم الأرض وهي الشهيدة شيخة ابو صالح بالاضافة إلى عشرات الجرحى والمعتقلين. لقد شكلت أحداث يوم الأرض 2000 الخلفية الملتهبة لمواجهات انتفاضة القدس والاقصى بعد نصف سنة، في بداية أكتوبر/تشرين أول من العام نفسه. حيث سقط 13 شهيدا من الداخل الفلسطيني بالاضافة لمئات الجرحى والمعتقلين. منذ ذلك الحين عملت السلطات الامنية الاسرائيلية والزعامة العربية الرسمية ممثلة بلجنة المتابعة العليا ولجنة السلطات المحلية كل ما تستطيعه لضمان عدم تكرار مثل هذه المواجهات غير مأمونة العواقب (من كلا الطرفين) وللحق أقول: لقد حققا في ذلك نجاحا كبيرا. وهكذا بدأ الشباب والصبايا يصوتون بأرجلهم في ذكرى يوم الارض. فبينما كان عدد المشاركين في مسيرة يوم الأرض يصل إلى عشرين الف وأكثر اصبح العدد بالمئات أو ىآلاف ضئيلة.
في الواقع، لم يعد لدي أي نقد جديد. فكل ما لدي قد قلته وكتبته على مرّ السنوات. لم يبق لدينا سوى ذكرى ليوم أطلقنا عليه يوم الأرض الخالد (ولا أقلل من أهمية الذكرى) بالاضافة إلى مسيرة متواضعة تنتهي بمهرجان خطابي ناري. لا اريد ان استبق الاحداث: ربما الامل الوحيد في استعادة الروح النضالية ليوم الارض سوف يأتي من خلال ربطه بيوم النكبة. أي ربط الأرض بالعودة. وقد تكون تجربة مسيرة العودة في غزة نقطة تحول وفاتحة في الاتجاه الصحيح. ومن الضروري العمل على فتح جبهات مشابهة في الضفة الغربية أيضا. لم يعد يوم الارض أسيرا لحدوده الجغرافية المحلية بل أصبح يوما وطنيا فلسطينيا شاملا. لنجعل من 30 آذار وحتى 15 أيار يوما نضاليا واحدا.