من فلسطين إلى كردستان مع الحب وخيبة الأمل
علي زبيدات - سخنين
طالما آمنت بوجود قضيتين عادلتين في منطقتنا: القضية الفلسطينية والقضية الكردية. هناك أوجه شبه عديدة وجوهرية بين القضيتين ولكن في الوقت نفسه هناك أيضا أوجه اختلاف عديدة وجوهرية. ولعل وجه الشبه الأساسي هو نضال الشعبين الفلسطيني والكردي من أجل حريتهما في ظروف صعبة تكاد أن تكون مستحيلة في ظل اختلال في موازين القوى. ولعل الاختلاف الأساسي هو أن نصف الشعب الفلسطيني مشرد عن أرضه والنصف الآخر يرزح تحت الاحتلال بينما يسكن الشعب الكردي على أرضه وإن كانت موزعة على أربعة بلدان. على الصعيد الشخصي أصبت بخيبة أمل عميقة من كلتا القضيتين بسبب فقدان البوصلة وما آلت إليه من تناقض مستعصي بين عدالتها وبين انتهازية ورجعية قيادتها. وكما يقول المثل: خيبة الأمل تأتي على قدر المحبة.
لقد كتب الكثير عن القضية الفلسطينية وعن القضية الكردية ولا أظن أن مقالة صحفية متواضعة تستطيع أن تأتي بشيء جديد في هذا المجال. لذا سوف أكتفي بمحاولة شرح موقفي الشخصي من مسألة الاستفتاء على استقلال (انفصال)اقليم كردستان العراق لعله يحمل بين سطوره بعض الفائدة في هذا الموضوع من خلال تقبل أو رفض هذا الموقف.
الأحداث الأخيرة فيما يتعلق بالقضية الكردية وخصوصا في العراق أعادتني إلى أكثر من أربعين سنة للوراء. في منتصف سنوات السبعين دخلت سجن الرملة المركزي حيث أمضيت ست سنوات متتالية. لا ادري اذا كان يسمى سجن الرملة المركزي لكونه السجن الأكبر في البلاد في ذلك الوقت، بالنسبة لي لا اعتراض على هذه التسمية ولكن لسبب آخر: لأنه كان يضم نخبة من قيادة أسرى الفصائل الفلسطينية ومن الأجانب الذين ناضلوا في صفوفها. كان من بين الأسرى الأجانب أسير كردي - تركي تم اختطافه من أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان حيث كان يتلقى تدريبات عسكرية وكان ينتمي الى احد الاحزاب التركية الماوية الملاحقة من قبل الجيش التركي خلال فترة الانقلاب العسكري في تركيا. في الوقت نفسه كان هناك أسيران ينتميان للحزب الشيوعي العراقي تم اختطافهما من إحدى الدول الإفريقية لمشاركتهما مجموعة ألمانية - فلسطينية تابعة للجبهة الشعبية لاختطاف طائرة إسرائيلية، هذا إلى جانب نخبة من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية. وفي تلك الفترة بالذات تصدر تجدد المعارك بين الحكومة العراقية والاحزاب الكردية الأحداث وذلك في أعقاب اتفاق الجزائر بين صدام حسين نائب رئيس مجلس الثورة آنذاك وشاه إيران حيث اوقفت ايران دعمها للأكراد مقابل تنازل العراق عن مساحات واسعة في شط العرب.
في ظل هذه الظروف كان الأسرى "اليساريون" وكنت على ما أظن من اصغرهم، يجلسون ويناقشون من وجهة نظر الماركسية - اللينينية حق الأمم في تقرير مصيرها بشكل عام وحق الشعب الكردي بشكل خاص. بالرغم من خلافاتهم التنظيمية والأيديولوجية والسياسية إلا أنهم جميعا اتفقوا على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. فقد كان الأسير الكردي - التركي الماوي شبه مقاطع من قبل باقي اليساريين لانه كان يطلق على الاتحاد السوفياتي بالامبريالية الصاعدة (بعد إطلاق سراحه تخلى عن الماوية و أصبح محللا سياسيا معروفا في اسطنبول) وكانت الخلافات المعهودة بين كوادر الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية على أشدها. ولكنهم اجتمعوا كلهم حول كتيب صغير كتبه ستالين كان يعتبر القول الفصل في المسألة القومية بعنوان:" الماركسية والمسألة القومية" وكانت قيمة وأهمية هذا الكتيب تفوق كل ما كتبه لينين وماركس حول المسالة القومية والتي كانت شحيحة في السجن. على كل حال اعتقد الأسرى اليساريون أن ستالين ينقل ما قاله لينين وماركس بكل أمانة في هذا المجال. يعرف ستالين الأمة كالتالي:" جماعة ثابتة من الناس تألفت تاريخيا على أساس جامعة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي المشترك الذي يجد تعبيرا عنه في الثقافة المشتركة". وبالتالي كل جماعة ينطبق عليها هذا التعريف تصبح أمة لها الحق في تقرير مصيرها. السؤال الذي يبقى مفتوحا ما هو الشكل السياسي الذي يتخذه هذا الحق؟ لقد أكد لينين في كتابه "حق الأمم في تقرير مصيرها" أن المقصود هو حرية تقرير المصير السياسي، أي الاستقلال كدولة، أي إنشاء دولة قومية إلى حد الانفصال التام. نظريا تبنى الحزب الشيوعي العراقي، والأحزاب الشيوعية العربية والتنظيمات اليسارية الفلسطينية، هذا التعريف بحذافيره ولكن عمليا وافق على صيغة الحكم الذاتي أو الفيدرالية كشكل من أشكال حق تقرير المصير. ففي بداية سنوات السبعين عندما اتفقت الحكومة العراقية والاحزاب الكردية على الحكم الذاتي وافق عليها الحزب الشيوعي العراقي. إلا أن هذه الاتفاقية لم تدم طويلا وبعد مواجهات عنيفة فرضت الحكومة العراقية على الأكراد حكما ذاتيا من طرف واحد رفضه الأكراد فما كان أمام الحزب الشيوعي إلا أن يرفضه أيضا. واليوم يطالب الاكراد بالانفصال التام وإقامة دولة قومية كردية ولا يسع الحزب الشيوعي العراقي، أو ما تبقى منه، إلا أن يوافق إذا ما أراد أن يبقى مخلصا لمبدأ حق "الأمم في تقرير مصيرها" الماركسي (الستاليني).
كنت، في تلك الفترة، واحدا من الذين تقبلوا هذه النظرية كأمر مسلم به. بعد خروجي من السجن وبعد تعمقي في المصادر الماركسية تبين لي أن ستالين لم ينقل أفكار لينين حول المسألة القومية بإخلاص، وأن لينين بدوره لم ينقل أفكار ماركس في ذات الموضوع بإخلاص وأن ماركس نفسه كان مشغولا بمسائل أخرى ولم يعر مسألة القوميات وخصوصا في البلدان النامية كامل الاهتمام. أعدت قراءة كراس لينين:"حق الأمم في تقرير مصيرها" ومجموعة من المقالات والخطب نشرت تحت اسم:"حركة شعوب الشرق التحررية الوطنية" فوجدت أن لينين يدافع عن أفكار كارل كاوتسكي الذي يدافع بدوره عن ضرورة قيام الدولة القومية البرجوازية كمرحلة لا بد منها تسبق الثورة البروليتارية، كارل كاوتسكي نفسه الذي وصفه لينين فيما بعد بالمرتد وخيانة الثورة، وفي الوقت نفسه يهاجم روزا لوكسمبورغ التي شككت بمقدرة البرجوازية في البلدان النامية إنجاز ثورة وطنية ديمقراطية والتخلص من التبعية للامبريالية.
من هنا توصلت إلى قناعة تامة وتبلور لدي موقف واضح يرفض اعتبار شعار "حق الأمم في تقرير مصيرها" حقا مطلقا أو حقا مقدسا على العكس من ذلك هو حق نسبي ومشروط. يقول لينين: " من منطلق ماركسي عند تحليل قضية اجتماعية يجب وضع القضية في نطاق تاريخي معين وتبيين الخصائص الملموسة التي تميز هذا البلد عن سواه في حدود حقبة تاريخية واحدة". وهذا بالضبط ما تجاهلته الأحزاب والحركات اليسارية. في ذلك الوقت، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان هناك وهم وجود حركات قومية برجوازية ديمقراطية دعا لينين إلى تأييدها. اليوم هذا الوهم قد تبخر نهائيا. ماركس نفسه كان متعاطفا مع الحركة القومية الأيرلندية لأنها في نهاية المطاف تساعد البروليتاريا الانجليزية للتخلص من شوفينيتها ولكنه في الوقت نفسه كان ضد بعض الحركات القومية السلافية لانها كانت تخدم القيصرية الروسية الرجعية ولا تقدم أي شيء تقدمي للبروليتاريا.
هل قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق كترجمة لحق تقرير المصير يحتوي على شيء تقدمي للثورة؟ أم العكس هو الصحيح؟ أم أنه يعزز النظام الإقطاعي العشائري السياسي للبرزاني؟ ويزيد التبعية للامبريالية الامريكية واسرائيل؟ هل هذا الاستقلال أو الانفصال، سمه كما شئت، يمنح حقا الحرية للشعب الكردي؟ هذا لا يعني أن النظام العراقي افضل وليس دفاعا عنه من أي منطلق كان. الحالة نفسها في فلسطين حيث يتكلم الجميع عن الدولة الفلسطينية المستقلة، هل يجب أن نقبل بدولة هزيلة تحكمها طغمة طفيلية تبقى تابعة لامريكا واسرائيل بحجة التخلص من الاحتلال أو كتطبيق لحق تقرير المصير؟
بالإضافة إلى كل ذلك، لا يعقل أن تنادي بالقضاء على الدولة كدولة بصفتها جهاز قمعي يخدم الطبقة الحاكمة وفي الوقت نفسه تدعم قيام دولة تعرف مسبقا أنها ستكون رجعية وعميلة. نعم، أنا ضد قيام دولة عميلة بزعامة البرزاني في كردستان العراق كما انني ضد قيام دولة فلسطينية عميلة بزعامة محمود عباس ومن على شاكلته. في الوقت نفسه يجب أن يستمر النضال ضد كافة أشكال الاضطهاد القومي ومن أجل وحدة وحرية الشعوب.