Wednesday, August 19, 2015

وقفة على مفترق طرق - النضال من غير قيادة



وقفة على مفترق طرق – النضال من غير قيادة
علي زبيدات – سخنين

في خضم موجة النضالات الشعبية الاخيرة، ردا على جريمة احراق عائلة الدوابشة واستشهاد الابن والاب وتضامنا مع الاسير المضرب عن الطعام محمد عليان، عاد إلى ذهني موضوع طالما تطرقت اليه في الماضي حول دور القيادة السياسية في النضال. لطالما انتقدت (وكلمة انتقاد في اغلب الاحيان كانت كلمة لطيفة) جميع القيادات والزعامات السياسية العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص من ملوك ورؤساء وحكام دول مرورا بزعامات حزبية وحركات سياسية وانتهاء برؤساء بلدياتنا ومجالسنا المحلية.
بالرغم من انتقاداتي اللاذعة والمتكررة لكافة القيادات والزعامات السياسية لم اشكك في يوم من الايام بضرورة وجود قيادة ثورية واعية وملتزمة تقود نضال الجماهير لتحقيق اهداف شعوبها بالحرية والاستقلال وتعمل على تجنيد وتعبئة الطاقات الشعبية وتقودها في الطريق النضالي الصحيح. تجارب الشعوب في العصر الحديث على الاقل تؤكد ان ضمان الانتصار كان مرهونا بوجود شعب الثائر الذي تقوده قيادة ثورية، وكل اختلال في هذه المعادلة المركبة كان يؤدي إلى الهزيمة والاندثار. هكذا كان الوضع في الثورات التي غيرت وجه التاريخ الحديث من الثورات الفرنسية المتعاقبة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مرورا بثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا والثورة الشعبية الصينية وحتى عشرات الثورات في فيتنام وكوبا ومصر والجزائر وغيرها، هذا بغض النظر عما آلت اليه هذه الثورات فيما بعد. لم انتقد في يوم من الايام قيادة كانت تقوم بدورها الريادي الطبيعي في ظل الظروف السائدة ولكني كنت شديد الانتقاد عندما تتخلى هذه القيادة عن دورها، تنحرف عنه أو تخونه، خاذلة بذلك شعوبها.
على الساحة الفلسطينية، اشعر في الحقيقة بنوع من الاعتذار لبعض القيادات السياسية التي كانت عرضة لاعنف عبارات النقد. وسوف اشرح ذلك.
هاجمت منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عام ١٩٦٤ على يد جامعة الدول العربية لتكون أداة في يدها لترويض الشعب الفلسطيني ومنعه من تنظيم نقسه بشكل مستقل وخوض غمار حرب تحرير شعبية لاستعادة وطنه، واوكلت زعامة المنظمة حينذاك لاحمد الشقيري، وتابعت انتقادي بعد سيطرة فصائل المقاومة الفلسطينية عليها في اعقاب هزيمة حزيران عام ١٩٦٧ وزعامة ياسر عرفات الطويلة لها، خصوصا بعد زوال وهم الكفاح المسلح وتزايد الكلام عن "الحلول السلمية" منذ مؤتمر جنيف في اعقاب حرب تشرين عام ١٩٧٣ وتبني ما يسمى بالبرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية وحتى اتفاقيات اوسلو. بعد هذه المرحلة المكتظة بالتناقضات، بالمد والجزر، بالتقدم والتقهقر، جاء الانهيار الكبير، وتحولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى ظل نفسها، بل إلى كاريكاتور نفسها. حتى اصبح من التجني وضع احمد الشقيري وياسر عرفات في سلة واحدة مع محمود عباس وزمرته. وتذكرت قول الشاعر: دعوت على عمرو فمات فسرني – وعاشرت اقواما بكيت على عمرو.
الحالة ذاتها تنطبق على القصائل الفلسطينية. ما زلت اذكر المواجهة بيني وبين ياسر عرفات في مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف عام ١٩٨٨ حيث طلب منه ادانة كافة اشكال "الارهاب" والاعتراف بقرار ٢٤٢ كشرط لفتح قنوات مفاوضات مع الادارة الامريكية، فأجبته وسط دهشة الحضور: "النضال الفلسطيني ليس ارهابا والشعب الفلسطيني يرفض قرار ٢٤٢ جملة وتفصيلا". ولكن بنظرة خاطفة للخلف نرى شتان بين حركة فتح بقيادة عرفات، ابو اياد، ابو جهاد وغيرهم ممن قدموا ارواحهم فداء للوطن وبين حركة فتح بقيادة محمود عباس، جبريل رجوب، احمد قريع واسماء اخرى تأبى الذاكرة ان تحفظها لتفاهتها. ليس من العدل بشيء انتقاد الفريقين وكأنهما ينتميان إلى حركة واحدة. ولم اوفر نقدي عن اليسار الفلسطنين الاكثر جذرية وهي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اولا بسبب تخبطها بين الايدولوجية القومية والماركسية وثانيا بسبب قبولها زعامة البرجوازية الفلسطينية للحركة الوطنية، ولكن بعد رحيل جورج حبش واستشهاد ابي على مصطفى وأسر احمد سعدات ماذا تبقى من الجبهة الشعبية؟ أما عن الاحزاب "اليسارية" الاخرى فحدث ولا حرج. ليس هناك بعد مجال للتفصيل فجميع الحركات والاحزاب والهيئات القيادية في الهوى سوى، حتى لجنة المتابعة العليا التي يجري اليوم الكلام عن انتخاب رئيس جديد لها لا تشذ عن هذه القاعدة. هل يستطيع احد من رؤساء هذه اللجنة "المسيسين" و"الحزبيين" أن يزاود على المختار الاول للجنة المتابعة وهل يستطيع الرئيس المزمع انتخابه أن يغير شيء؟
لنعود إلى الخانة الاولى: نحن لا نعاني اليوم من تقصير القيادات السياسية، من عجزها، تخبطها، تخاذلها إلى غير ذلك الصفات والمترادفات، بل نعاني بكل بساطة من غيابها، انها غير موجودة، أو في احسن الحالات هي موجودة في واد والجماهير موجودة في واد. تقوم الحراكات الشبابية والشعبية بنضالاتها هنا وهناك في ظل غياب كامل للقيادات السياسية، حتى عندما تنتمي بعض هذه الحراكات لاحزاب سياسية فالقيادة تكون غائبة سياسيا وإن حضرت للحظات معدودة اسقاطا للواجب او كجزء من العلاقات العامة، فانها لا تضفي أية صبغة قيادية سياسية للنضال.
الخطأ التاريخي الذي ارتكبته معظم الاحزاب والحركات اليسارية، الاشراكية أو الشيوعية، الثورية أو الاصلاحية على الصعيد الفكري هو القول بأن الجماهير الشعبية قادرة على القيام بالنضالات العفوية ولكنها غير قادرة على خلق حالة من الوعي السياسي، وهذه المهمة اوكلت للطليعة المثقفة والتي غالبا ما تأتي من خارج الطبقات الكادحة. ومن هنا نمت وتطورت نظرية الفصل بين القيادة والجماهير ومحاولات التغلب عليها. خير ضمان لاستحالة هذا الفصل هو أن تخلق الجماهير الشعبية طليعتها من بين صفوفها وتستغني عن "طلائع" وافدة من الخارج.
اننا نقف في الوقت الراهن امام مفترق طرق: الطريق الصحيح، حسب رأيي، هو طريق الجماهير الواعية التي تقود نفسها بنفسها من خلال خلقها لقيادتها السياسية الثورية الواعية.

No comments: