المثقفون
والطوبرجية
علي
زبيدات – سخنين
أذكر،
عندما كنت يافعا قبل سنوات طويلة، أن احد
مدراء العمل الذي يعمل في شركة اسرائيلية
كبيرة للبناء كان يبحث عن فرقة طوبرجية.
واقترح علي احد
الاصدقاء أن انضم للفرقة.
حاولت اقناعه بأني
لا افهم شيء بالطوبار ولا اصلح لهذا العمل.
فقال لي:
كل واحد يستطيع أن
يكون طوبرجي ما عليك سوى أن تحمل وزرة
وتملأها بالمسامير وتضع الشاكوس إلى
جانبك وتبدأ بالعمل مقلدا الاخرين وزضاف
لتشجيعي بأنه سوف يساعدني لتعلم المهنة.
وبالفعل انضممت
في اليوم التالي للفرقة وبدأت العمل
متقيدا بارشادات وتعليمات صديقي، ربطت
الوزرة حول خصري، ملأتها بالمسامير وحملت
الشاكوش بيدي اليمنى.
وعندما جاء دور
ضرب المسامير بالخشبة كانت ضربة تأتي على
المسمار وضربة اخرى على اصابعي.
وغالبا ما كان
المسمار يسقط على الارض اما لضعف الضربة
واما لإعوجاجها. ولسوء
حظي لاحظ مدير العمل ذلك فطلب من مسؤول
الفرقة ألا اعود في اليوم التالي للعمل.
فقلت لصديقي:
ليس كل من يحمل
وزرة على خصره يصبح طوبرجيا ولا حتى مساعدا
لطوبرجي. في
ذلك الوقت، ولا أظن أن ذلك قد تغير كثيرا
اليوم، كانت كلمة طوبرجي بالغة السلبية
تصل الى حد الشتيمة. فاذا
اردت أن تسخر من شخص وتصفه بالبلادة
والغباء تدعوه: يا
طوبرجي. فالطوبرجي
هو الطالب الذي فشل في الامتحانات النهائية
ولا يستطيع متابعة تعليمه العالي أو انه
لم يكمل تعليمه الثانوي أصلا واضطر للبحث
عن عمل لا يتطلب أي مجهود ذهني.
وكانت المقارنة
دائما تجري بين الطوبرجيين من جهة وبين
حملة الشهادات الجامعية من اطباء ومهندسين
ومحامين ومعلمين وغيرهم من الاكادميين
المتعارف عليهم الآن بطبقة المثقفين.
وطبعا كما هو متعارف
عليه ومتفق عليه اجتماعيا لا يوجد هناك
مجال هناك للمقارنة.
صحيح،
ليس كل من حمل وزرة أصبح طوبرجيا، ولكن
بالمقابل ليس كل من حمل شهادة جامعية أصبح
مثقفا. من
خلال مراقبتي المتواضعة للانتخابات
المحلية الوشيكة أجزم أن نسبة المثقفين
بين الطوبرجية تفوق نسبة المثقفين من بين
حملة الشهادات الجامعية.
واليكم بعض النماذج
الواقعية الموجودة في كل قرية ومدينة
عربية، على سبيل المثال لا الحصر:
عائلة كبيرة تجتمع
على غرار الاحزاب لكي تختار مرشحها
(برايمريز
عائلي) لرئاسة
أو لعضوية البلدية وتختار مهندسا وتطلب
من كافة افراد العائلة الالتفاف حوله.
عائلة اخرى تختار
طبيبا. وعائلة
ثالثة تختار رجلا أميا او يكاد ان يكون
أميا نظرا لمكانته الاجتماعية وفي هذه
الحالة على "مثقفي"
العائلة دعمه
والوقوف الى جانبه.
من
هو المثقف؟ هل هو الطبيب أو المهندس أو
المحامي ولكنه المجرد من أي وعي اجتماعي؟والذي
ينظر الى مجتمعه من تثقب إبرة عائلته؟
ويعجز عن رؤية قضايا هذا المجتمع من زاوية
شاملة. واذا
كان هذا المتثقف يفتقد للوعي الاحتماعي
فأي دور اجتماعي تقدمي يستطيع ان يلعبه
في حالة انتخابه؟ "المثقف"
، ودائما يجب وضع
هذه الكلمة بين هلالين، في مجتمعنا مصاب
بالتذبذب الفكري والانتهازية واللهث
وراء المصالح الذاتية واللجوء الى
التبريرات الواهية لتبرير هامشيته.
بينما المثقف
الحقيقي لا يمكن أن يتسربل بعباءة الحمولة
البالية ويطرح نفسه كمرشح عائلي او يقبل
أن يكون ضمن حاشية المرشح العائلي وتكوين
هالة رائعة من النفاق الاجتماعي حوله.
من
المفروض أن يكون المثقف اولا وقبل كل شيء
ناقدا اجتماعيا ملتزما بقضايا بلده وشعبه،
يتمتع بالوعي الاجتماعي التقدمي والممارسة
النضالية النابعة من هذا الوعي.
بناء على ذلك من
الطبيعي أن يقف على الطرف المناقض للسلطة
الغاشمة ولا يسعى للاندماج في هذه السلطة
بكل ثمن. لذلك
أشك أن تكون السلطة المركزية والمحلية
في هذه البلاد هي المكان الملائم للمثقف
الفلسطيني الملتزم. ولكن
هذا لا يعني أن يتقوقع في برجه العاجي أو
يلجأ الى صمت اهل القبور بل على العكس من
ذلك تماما: عليه
أن ينزل الى الشارع، يلتحم بالجماهير
حاملا همومهم وآمالهم،يحس بنبضهم ويضم
صوته الى صرختهم.
في
الوقت الراهن لا يمكن اقناع الجماهير بأن
السلطة المحلية هي امتداد للسلطة المركزية
ووسيلة لقمعهم وترويضهم وليس لتقديم
الخدمات لهم. على
الجماهير ان تقتنع بدلك من خلال تجاربها
الحياتية اليومية حتى تتوصل إلى النتيجة
الحتمية بأن الحل الجذري يكمن في تغيير
السلطة بشكليها المركزي والمحلي.