أين اختفى اليسار العربي؟
علي زبيدات – سخنين
في خضم العواصف التي عصفت بالعالم العربي في السنة الأخيرة على الأقل، هناك أمر لم أستطع أن أستوعبه أو أهضمه: أين اليسار العربي؟ لماذا لم نسمع صوته؟ لماذا لم نرى جحافله تملأ الشوارع والميادين؟ لماذا لم نقرأ ولم نطلع على برامجه؟ وعندما أتكلم عن اليسار العربي أقصد كل من سولت له نفسه وسماها يسارا بغض النظر إن كان قوميا أو اشتراكيا أو شيوعيا أو لبراليا. وبغض النظر إن كان ثوريا أو إصلاحيا، جذريا أو انتهازيا. أين ذهبت الشعارات الرنانة ولكن الخاوية، والتي نعرف منذ زمن بعيد إنها خاوية، ولكننا تربينا عليها وترعرعنا معها منذ كنا أطفالا؟ لماذا اختفت؟ لماذا ملأ هذا اليسار فمه ماء فسكت؟ وثقلت قدماه فربض وشلت يداه فهمد؟
وبالمقابل لماذا يعوج العالم العربي ويموج بمن دمغناهم بالرجعية والتخلف؟ من جماعات الأخوان المسلمين على مختلف أشكالهم إلى الأحزاب السلفية وشيوخ وأمراء وملوك النفط؟ هل معقول أن يكون هذا اليسار هو الرجعي وهو المتخلف ولكنه لا يعلم ذلك؟. لقد آن الأوان أن ينظر اليسار العربي إلى نفسه بالمرآة ويرى صورته على حقيقتها كما هي بدون ماكياج وبدون تجميل وليس كما يحب أن يراها. لقد آن الأوان أن يكف عن إطلاق سهام نقده على الآخرين ويبدأ باستعمال سلاح النقد الذاتي على جسده الحي، هذا إذا بقي لديه ثمة جسد حي.
لست هنا بصدد تحليل الانتصارات التي حققتها أحزاب الإسلام السياسي في تونس ومصر وفي غيرها من البلدان بالرغم من أنها كانت أكثر الأطراف قابلية للمساومة والتهادن مع الأنظمة البائدة وبالرغم من إنها لم تخض أية معركة بناء على برنامج سياسي واضح. كل ما أريد قوله بهذا الصدد أن أحزاب الإسلام السياسي قد حققت نجاحا باهرا تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية وتسويقها على أفضل وجه. بينما نجحت الأحزاب والحركات التي تعتبر نفسها يسارية من تحويل الايديولوجية السياسية إلى دين ولكن إلى دين جامد لا روح فيه.
لقد نال اليساريون على مختلف مشاربهم من قوميين واشتراكيين وليبراليين فرصتهم الذهبية طوال القرن الماضي، القرن العشرين أو معظمه، وبالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. لكنهم أخفقوا أيما إخفاق، حيث قادوا شعوبهم من هزيمة إلى أخرى ومن تخلف إلى مزيد من التخلف ومن فساد إلى مزيد من الفساد حتى انتهوا إلى أنظمة فاشية أو شبه فاشية. ما زرعوه خلال القرن المنصرم. ما يلاقونه اليوم من نبذ وازدراء ليس سوى جزء من عقاب الجماهير لهم. وكما قال كارل ماركس الذي يعتبره اليساريون الأكثر جذرية مرجعا لهم: "نحن لا نحكم على الأشخاص أو على الأحزاب السياسية من خلال ما يقولونه عن أنفسهم بل من خلال أفكارهم وممارساتهم العملية".
ماذا تعني مثلا أن تكون ليبيا جماهيرية اشتراكية عظمى وتدار كمزرعة خاصة لعائلة واحدة؟ ماذا تعني أن تكون سوريا لنصف قرن دولة اشتراكية ويتم احتكارها من قبل نخبة فاسدة وكأنها حانوت خاص؟. ماذا تعني الوحدة عندما يقوم القيمون عليها بتقطيع أوصالها؟ ماذا تعني الحرية عندما يصبح العالم العربي بأسره سجن كبير؟ هل نحن بحاجة إلى اشتراكية أخرى على طريقة شاوشيسكو؟ وعندما نراها تنهار أمام أعيننا نصرخ: مؤامرة مؤامرة؟
دعونا نأخذ اليسار الفلسطيني نموذجا. ألم يكن منذ البداية ذنبا لليمين الفلسطيني؟ ألم يشكل منذ البداية احتياطا لهذا اليمين بل وفي كثير من الأحيان شاهد زور له؟ هل كان من الممكن تمرير اتفاقيات أوسلو المجحفة لولا دعم هذا اليسار؟ هل كان من الممكن أن تصمد سلطة أوسلو عشرين يوما، وليس عشرين عاما، لولا المساهمة التي قدمها هذا اليسار على كافة الأصعدة وفي جميع المجالات؟ لقد أخذت بعض الفصائل "اليسارية" جدا جدا على عاتقها مهمة التنظير لإتفاقيات وسلطة أوسلو. إذن، أين المفاجأة إذا ما نهض هذا اليسار ذات صباح ووجد نفسه وحيدا عاريا ورأى الجماهير تلتف إما حول حركة فتح حيث السلطة والمال وإما حول حماس حيث المقاومة أو على الأقل الحلم بالمقاومة.
ولنأخذ اليسار الفلسطيني في الداخل كنموذج آخر: بصراحة، لا أدري أي تعريف لليسار ينطبق عليه. فإذا كان اليسار يعني أولا وقبل كل شيء القدرة على التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي وقيادة هذا التغيير نحو واقع أفضل فإن يسارنا مصاب بجمود عقائدي وتخلف اجتماعي وشلل سياسي، وإلا كيف نفسر العائلية والطائفية والفساد التي تطفو على السطح أيام الانتخابات ولكنها في الحقيقة موجودة طوال الوقت؟
الحقيقة المرة هي أن اليسار العربي يمثل ذلك النظام الذي تنادي الجماهير بإسقاطه، النظام الذي يجب أن يرحل. فالقطيعة بين هذا اليسار وبين الجماهير تكاد أن تكون مطلقة.
لن تكون، حسب رأيي، أحزاب الإسلام السياسي بديلا أفضل للأنظمة المنهارة أو للأحزاب العلمانية. ولكن هذه هي فرصتها وقد أبدعت حتى الآن في استغلالها. لم تخيب أمل الجماهير المتلهفة للتغيير بعد. ولكن حسب رأيي سوف تقوم بذلك سريعا. فإذا أخذنا السودان كمثل استولت فيه أحزاب الإسلام السياسي على السلطة لرئينا كيف قامت هذه الأحزاب خلال فترة وجيزة بتقسيم البلد والزج به في حروب أهلية متواصلة هذا بالإضافة إلى الفقر والمجاعات، ولاستطعنا أن نتخيل مصير باقي البلدان.
إذا أراد اليسار العربي المنهك أن يسترد عافيته ودوره التاريخي فعليه أن يحترق كالعنقاء ويصبح رمادا لعل من هذا الرماد يخرج طائر عنقاء جديد.
علي زبيدات – سخنين
في خضم العواصف التي عصفت بالعالم العربي في السنة الأخيرة على الأقل، هناك أمر لم أستطع أن أستوعبه أو أهضمه: أين اليسار العربي؟ لماذا لم نسمع صوته؟ لماذا لم نرى جحافله تملأ الشوارع والميادين؟ لماذا لم نقرأ ولم نطلع على برامجه؟ وعندما أتكلم عن اليسار العربي أقصد كل من سولت له نفسه وسماها يسارا بغض النظر إن كان قوميا أو اشتراكيا أو شيوعيا أو لبراليا. وبغض النظر إن كان ثوريا أو إصلاحيا، جذريا أو انتهازيا. أين ذهبت الشعارات الرنانة ولكن الخاوية، والتي نعرف منذ زمن بعيد إنها خاوية، ولكننا تربينا عليها وترعرعنا معها منذ كنا أطفالا؟ لماذا اختفت؟ لماذا ملأ هذا اليسار فمه ماء فسكت؟ وثقلت قدماه فربض وشلت يداه فهمد؟
وبالمقابل لماذا يعوج العالم العربي ويموج بمن دمغناهم بالرجعية والتخلف؟ من جماعات الأخوان المسلمين على مختلف أشكالهم إلى الأحزاب السلفية وشيوخ وأمراء وملوك النفط؟ هل معقول أن يكون هذا اليسار هو الرجعي وهو المتخلف ولكنه لا يعلم ذلك؟. لقد آن الأوان أن ينظر اليسار العربي إلى نفسه بالمرآة ويرى صورته على حقيقتها كما هي بدون ماكياج وبدون تجميل وليس كما يحب أن يراها. لقد آن الأوان أن يكف عن إطلاق سهام نقده على الآخرين ويبدأ باستعمال سلاح النقد الذاتي على جسده الحي، هذا إذا بقي لديه ثمة جسد حي.
لست هنا بصدد تحليل الانتصارات التي حققتها أحزاب الإسلام السياسي في تونس ومصر وفي غيرها من البلدان بالرغم من أنها كانت أكثر الأطراف قابلية للمساومة والتهادن مع الأنظمة البائدة وبالرغم من إنها لم تخض أية معركة بناء على برنامج سياسي واضح. كل ما أريد قوله بهذا الصدد أن أحزاب الإسلام السياسي قد حققت نجاحا باهرا تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية وتسويقها على أفضل وجه. بينما نجحت الأحزاب والحركات التي تعتبر نفسها يسارية من تحويل الايديولوجية السياسية إلى دين ولكن إلى دين جامد لا روح فيه.
لقد نال اليساريون على مختلف مشاربهم من قوميين واشتراكيين وليبراليين فرصتهم الذهبية طوال القرن الماضي، القرن العشرين أو معظمه، وبالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. لكنهم أخفقوا أيما إخفاق، حيث قادوا شعوبهم من هزيمة إلى أخرى ومن تخلف إلى مزيد من التخلف ومن فساد إلى مزيد من الفساد حتى انتهوا إلى أنظمة فاشية أو شبه فاشية. ما زرعوه خلال القرن المنصرم. ما يلاقونه اليوم من نبذ وازدراء ليس سوى جزء من عقاب الجماهير لهم. وكما قال كارل ماركس الذي يعتبره اليساريون الأكثر جذرية مرجعا لهم: "نحن لا نحكم على الأشخاص أو على الأحزاب السياسية من خلال ما يقولونه عن أنفسهم بل من خلال أفكارهم وممارساتهم العملية".
ماذا تعني مثلا أن تكون ليبيا جماهيرية اشتراكية عظمى وتدار كمزرعة خاصة لعائلة واحدة؟ ماذا تعني أن تكون سوريا لنصف قرن دولة اشتراكية ويتم احتكارها من قبل نخبة فاسدة وكأنها حانوت خاص؟. ماذا تعني الوحدة عندما يقوم القيمون عليها بتقطيع أوصالها؟ ماذا تعني الحرية عندما يصبح العالم العربي بأسره سجن كبير؟ هل نحن بحاجة إلى اشتراكية أخرى على طريقة شاوشيسكو؟ وعندما نراها تنهار أمام أعيننا نصرخ: مؤامرة مؤامرة؟
دعونا نأخذ اليسار الفلسطيني نموذجا. ألم يكن منذ البداية ذنبا لليمين الفلسطيني؟ ألم يشكل منذ البداية احتياطا لهذا اليمين بل وفي كثير من الأحيان شاهد زور له؟ هل كان من الممكن تمرير اتفاقيات أوسلو المجحفة لولا دعم هذا اليسار؟ هل كان من الممكن أن تصمد سلطة أوسلو عشرين يوما، وليس عشرين عاما، لولا المساهمة التي قدمها هذا اليسار على كافة الأصعدة وفي جميع المجالات؟ لقد أخذت بعض الفصائل "اليسارية" جدا جدا على عاتقها مهمة التنظير لإتفاقيات وسلطة أوسلو. إذن، أين المفاجأة إذا ما نهض هذا اليسار ذات صباح ووجد نفسه وحيدا عاريا ورأى الجماهير تلتف إما حول حركة فتح حيث السلطة والمال وإما حول حماس حيث المقاومة أو على الأقل الحلم بالمقاومة.
ولنأخذ اليسار الفلسطيني في الداخل كنموذج آخر: بصراحة، لا أدري أي تعريف لليسار ينطبق عليه. فإذا كان اليسار يعني أولا وقبل كل شيء القدرة على التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي وقيادة هذا التغيير نحو واقع أفضل فإن يسارنا مصاب بجمود عقائدي وتخلف اجتماعي وشلل سياسي، وإلا كيف نفسر العائلية والطائفية والفساد التي تطفو على السطح أيام الانتخابات ولكنها في الحقيقة موجودة طوال الوقت؟
الحقيقة المرة هي أن اليسار العربي يمثل ذلك النظام الذي تنادي الجماهير بإسقاطه، النظام الذي يجب أن يرحل. فالقطيعة بين هذا اليسار وبين الجماهير تكاد أن تكون مطلقة.
لن تكون، حسب رأيي، أحزاب الإسلام السياسي بديلا أفضل للأنظمة المنهارة أو للأحزاب العلمانية. ولكن هذه هي فرصتها وقد أبدعت حتى الآن في استغلالها. لم تخيب أمل الجماهير المتلهفة للتغيير بعد. ولكن حسب رأيي سوف تقوم بذلك سريعا. فإذا أخذنا السودان كمثل استولت فيه أحزاب الإسلام السياسي على السلطة لرئينا كيف قامت هذه الأحزاب خلال فترة وجيزة بتقسيم البلد والزج به في حروب أهلية متواصلة هذا بالإضافة إلى الفقر والمجاعات، ولاستطعنا أن نتخيل مصير باقي البلدان.
إذا أراد اليسار العربي المنهك أن يسترد عافيته ودوره التاريخي فعليه أن يحترق كالعنقاء ويصبح رمادا لعل من هذا الرماد يخرج طائر عنقاء جديد.