التطبيع الوطني
علي زبيدات – سخنين
للوهلة الأولى يبدو هذا العنوان غريبا، إذ كيف يمكن أن يكون التطبيع وطنيا؟ ونحن متفقون جميعا على وجود تناقض مباشر بين التطبيع والوطنية، بين الموقف التطبيعي مع الكيان الصهيوني وبين الموقف الوطني المقاوم. لا أنكر وجود غرابة صارخة في تزاوج هذين المصطلحين. ربما نقف أمام ضرورة إعادة النظر في مفهوم التطبيع ومفهوم الوطنية.
أذكر أنه في بداية سنوات الثمانين كان النقاش ما زال حاميا على الساحتين الفلسطينية والعربية إزاء الموقف من اتفاقيات كامب ديفيد ومن نظام السادات الذي وقع على هذه الاتفاقيات. وكان الموقف الوطني الذي لا غبار عليه في ذلك الوقت هو رفض هذه الاتفاقيات جملة وتفصيلا ومقاطعة النظام المصري الذي نعت بأبشع صفات العمالة والاستسلام والتفريط. على هذه الخلفية تشكلت جبهة الرفض العربية في حينه. وفي تلك الفترة بالذات، أي بعد مرور حوالي عامين على توقيع الاتفاقيات بدأت جبهة الرفض تكشف عن عجزها وتذبذبها وبدأت المياه تعود تدريجيا إلى مجاريها وتعود العلاقات مع نظام السادات إلى طبيعتها، وليس لأن هذا النظام تخلى أو ابتعد عن اتفاقيات كامب ديفيد بل لأن جبهة الرفض بدأت تقترب منها بخطوات حثيثة.
وأذكر أن كوادر قيادية من حركة ابنا البلد، وهي الحركة التي كانت الأكثر جذرية من الناحية الوطنية، قد اجتمعنا وخرجنا بقرار يؤكد على ضرورة التمسك بالموقف الوطني الذي كان يعني رفض كامب ديفيد ومواصلة مقاطعة النظام المصري. وهذا كان يعني عمليا حذر السفر إلى مصر لأن ذلك يعد تطبيعا. ولكن، بعد ذلك بفترة وجيزة فوجئنا بخبر زيارة شخصية قيادية من أبنا البلد لمصر مبررا ذلك فيما بعد بظروف خاصة تم تقبلها من معظم باقي الرفاق. في تلك الأثناء بدأ سيل المسافرين يتدفق إلى مصر وجرف معه كافة المعارضين وزال الحذر تماما. وكنا نحن، المعدودين على التيار الوطني الجذري، وربما من باب الخجل نبرر تصرفاتنا ومواقفنا الجديدة بأننا لا نسافر إلى مصر من أجل الترفيه والتطبيع بل من أجل مع الشعب المصري ومع قواه الوطنية وكنا نتخذ من زيارة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وعادل إمام (الذي كان يعد في ذلك الوقت نجم التقدم) وغيرهم قناعا.
في بداية التسعينات تكرر الموقف نفسه، هذه المرة مع الأردن. فقد دمغت كافة القوى الوطنية اتفاقيات وادي عربة بالعمالة والخيانة وتقرر رفضها وعدم التعامل معها على كافة المستويات ومن ضمنها زيارة الأردن لأنها تصب في بحر التطبيع القديم والجديد والذي لعب به النظام الأردني دورا مميزا. لكن مرة أخرى جرفت الجسور المفتوحة الجميع. ومرة أخرى وجدت القوى الوطنية الأكثر جذرية قناعا لها: زيارة الرفيق جورج حبش والمناضلة ليلي خالد وحضور حفلات مارسيل خليفة وسميح شقير بالإضافة إلى التواصل مع شعبنا في الأردن.
لا أريد أن أتطرق هنا بالتفصيل إلى اتفاقيات أوسلو وكيف يمكن أن نرفضها من أساسها ونتقبلها بحذافيرها في الوقت نفسه. وقد لجأ بعض منظرينا إلى قوانين الديالكتيك لتبريرها، إلى قانون وحدة وصراع الأضداد، والتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي والتراكمات الكمية التي تتحول إلى كيفية.
هكذا وجدنا أنفسنا ضد أوسلو بامتياز وفي الوقت نفسه معها بحماس منقطع النظير. تشابك وتقاطع التطبيع مع الوطنية. اختلطا وامتزجا واندمجا معا. لم نعد نعرف متى تنتهي الوطنية ومتى يبدأ التطبيع. أصبحنا كما يقول مظفر النواب: " الواحد فينا يحمل في الداخل ضده".
ما حملني إلى الكتابة في هذا الموضوع ألان ليس التطبيع السياسي وليس الموقف الوطني السياسي، بالرغم من أهميتهما، بل " التطبيع الوطني" الثقافي وهو الأكثر أهمية وخطورة حسب رأيي.
من منا لم يعشق فرقة العاشقين الفلسطينية ويردد أغانيها في المناسبات الوطنية وفي الإعراس وفي كل مكان. هل يمكن الكلام عن ثورة فلسطينية بدون التطرق إلى هذه الفرقة العريقة؟ لطالما حلمت بمشاهدتها بمهرجان حي. حتى تناولت وسائل الإعلام خبر دخولها إلى الضفة الغربية بدعوة من السلطة وبمباركة قوات الاحتلال، وكان في استقبالها زعامات السلطة الذين وأدوا الثورة ابتداء من محمود عباس وحتى ياسر عبد ربه. وأعلن عن إحيائها لمهرجان ضخم في قصر "الثقافة" (أي قصر وأية ثقافة؟) في رام الله. وهرع الوطنيون لمشاهدة الفرقة "العائدة إلى الوطن". وقررت بحسرة ألا أشارك في هذا التطبيع الوطني. وكم كان المشهد سرياليا عندما شاهدت مقطع فيديو من هذا المهرجان والفرقة تغني: هبت النار والبارود غنى" أمام صورة هائلة لرئيس السلطة محمود عباس ( إلى جانب الرئيس السابق عرفات حيث كان المهرجان بمناسبة الذكرى السادسة لاستشهاده). بينما النار الوحيدة التي تهب في ربوع الضفة في هذه الأيام هي نار جيش الاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستوطنين بعد أن أخمد زعماء السلطة المحتفلين النار الوطنية.
تكررت خيبة أملي مرة أخرى قبل عدة أسابيع وتحطم الحلم على صخرة الواقع عندما قرأت عن قدوم عماد آخر من أعمدة الثقافة الوطنية وبالطريقة نفسها، وهو مطرب الثورة بدون منازع أبو عرب. لطالما آمنت، وما زلت، أن حق العودة لا خوف عليه طالما يردد اللاجئون وغير اللاجئين من جماهير الشعب الفلسطيني أغانيه. هل يوجد هناك فلسطيني واحد لم تهزه أغنية: هدي يا بحر هدي حتى الأعماق؟. لا أخفي أنني تصارعت مع نفسي حتى صرعتها ولم اذهب لمشاهدته.
أكاد اليوم أن افقد توازني مرة أخرى وأنا أتابع أخبار "مهرجان فلسطين الدولي" برعاية وزارة التطبيع الثقافي في سلطة أوسلو. لطالما عشقت سعاد الماسي وصوت مكادي نحاس. قد تكون مشاهدتهما في حفل مباشر وحي في رام الله فرصة لا تتكرر. لماذا تتساقط النجوم بهذا الشكل المخزي؟ هل حقا تغيير الزمن إلى هذه الدرجة وأنا من لا يستطيع التخلص من هذه العقلية المتحجرة؟ وماذا إذا كانت السلطة مطبعة؟ وماذا إذا كان قدوم هؤلاء النجوم مرهون بضابط إسرائيلي يحمل ختمه لدمغ عقولنا بالختم الإسرائيلي المتفوق؟ وجاء تصريح لطيفة التونسية ليعيدني إلى رشدي. أكاد لا أعرفها، ونادرا ما استمعت إليها. وقد قرأت بعض التهجمات عليها بسبب موقفها من الثورة التونسية. ولكن تصريحها بعد أن رفضت دعوة المشاركة في مهرجان فلسطين الدولي كان رائعا: أرفض ختم جواز سفري بالخاتم الإسرائيلي، لن أتحمل الوقوف أمام ضابط إسرائيلي على حاجز لكي يسمح لي بالدخول إلى أرض عربية. لي الشرف أن أغني لفلسطين عندما تتحرر ".
إذا كان رفض "التطبيع الوطني" تحجرا فأمنيتي أن يكون هذا الحجر من صوان. شكرا لطيفة وعذرا على ضعف إيماني.
علي زبيدات – سخنين
للوهلة الأولى يبدو هذا العنوان غريبا، إذ كيف يمكن أن يكون التطبيع وطنيا؟ ونحن متفقون جميعا على وجود تناقض مباشر بين التطبيع والوطنية، بين الموقف التطبيعي مع الكيان الصهيوني وبين الموقف الوطني المقاوم. لا أنكر وجود غرابة صارخة في تزاوج هذين المصطلحين. ربما نقف أمام ضرورة إعادة النظر في مفهوم التطبيع ومفهوم الوطنية.
أذكر أنه في بداية سنوات الثمانين كان النقاش ما زال حاميا على الساحتين الفلسطينية والعربية إزاء الموقف من اتفاقيات كامب ديفيد ومن نظام السادات الذي وقع على هذه الاتفاقيات. وكان الموقف الوطني الذي لا غبار عليه في ذلك الوقت هو رفض هذه الاتفاقيات جملة وتفصيلا ومقاطعة النظام المصري الذي نعت بأبشع صفات العمالة والاستسلام والتفريط. على هذه الخلفية تشكلت جبهة الرفض العربية في حينه. وفي تلك الفترة بالذات، أي بعد مرور حوالي عامين على توقيع الاتفاقيات بدأت جبهة الرفض تكشف عن عجزها وتذبذبها وبدأت المياه تعود تدريجيا إلى مجاريها وتعود العلاقات مع نظام السادات إلى طبيعتها، وليس لأن هذا النظام تخلى أو ابتعد عن اتفاقيات كامب ديفيد بل لأن جبهة الرفض بدأت تقترب منها بخطوات حثيثة.
وأذكر أن كوادر قيادية من حركة ابنا البلد، وهي الحركة التي كانت الأكثر جذرية من الناحية الوطنية، قد اجتمعنا وخرجنا بقرار يؤكد على ضرورة التمسك بالموقف الوطني الذي كان يعني رفض كامب ديفيد ومواصلة مقاطعة النظام المصري. وهذا كان يعني عمليا حذر السفر إلى مصر لأن ذلك يعد تطبيعا. ولكن، بعد ذلك بفترة وجيزة فوجئنا بخبر زيارة شخصية قيادية من أبنا البلد لمصر مبررا ذلك فيما بعد بظروف خاصة تم تقبلها من معظم باقي الرفاق. في تلك الأثناء بدأ سيل المسافرين يتدفق إلى مصر وجرف معه كافة المعارضين وزال الحذر تماما. وكنا نحن، المعدودين على التيار الوطني الجذري، وربما من باب الخجل نبرر تصرفاتنا ومواقفنا الجديدة بأننا لا نسافر إلى مصر من أجل الترفيه والتطبيع بل من أجل مع الشعب المصري ومع قواه الوطنية وكنا نتخذ من زيارة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وعادل إمام (الذي كان يعد في ذلك الوقت نجم التقدم) وغيرهم قناعا.
في بداية التسعينات تكرر الموقف نفسه، هذه المرة مع الأردن. فقد دمغت كافة القوى الوطنية اتفاقيات وادي عربة بالعمالة والخيانة وتقرر رفضها وعدم التعامل معها على كافة المستويات ومن ضمنها زيارة الأردن لأنها تصب في بحر التطبيع القديم والجديد والذي لعب به النظام الأردني دورا مميزا. لكن مرة أخرى جرفت الجسور المفتوحة الجميع. ومرة أخرى وجدت القوى الوطنية الأكثر جذرية قناعا لها: زيارة الرفيق جورج حبش والمناضلة ليلي خالد وحضور حفلات مارسيل خليفة وسميح شقير بالإضافة إلى التواصل مع شعبنا في الأردن.
لا أريد أن أتطرق هنا بالتفصيل إلى اتفاقيات أوسلو وكيف يمكن أن نرفضها من أساسها ونتقبلها بحذافيرها في الوقت نفسه. وقد لجأ بعض منظرينا إلى قوانين الديالكتيك لتبريرها، إلى قانون وحدة وصراع الأضداد، والتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي والتراكمات الكمية التي تتحول إلى كيفية.
هكذا وجدنا أنفسنا ضد أوسلو بامتياز وفي الوقت نفسه معها بحماس منقطع النظير. تشابك وتقاطع التطبيع مع الوطنية. اختلطا وامتزجا واندمجا معا. لم نعد نعرف متى تنتهي الوطنية ومتى يبدأ التطبيع. أصبحنا كما يقول مظفر النواب: " الواحد فينا يحمل في الداخل ضده".
ما حملني إلى الكتابة في هذا الموضوع ألان ليس التطبيع السياسي وليس الموقف الوطني السياسي، بالرغم من أهميتهما، بل " التطبيع الوطني" الثقافي وهو الأكثر أهمية وخطورة حسب رأيي.
من منا لم يعشق فرقة العاشقين الفلسطينية ويردد أغانيها في المناسبات الوطنية وفي الإعراس وفي كل مكان. هل يمكن الكلام عن ثورة فلسطينية بدون التطرق إلى هذه الفرقة العريقة؟ لطالما حلمت بمشاهدتها بمهرجان حي. حتى تناولت وسائل الإعلام خبر دخولها إلى الضفة الغربية بدعوة من السلطة وبمباركة قوات الاحتلال، وكان في استقبالها زعامات السلطة الذين وأدوا الثورة ابتداء من محمود عباس وحتى ياسر عبد ربه. وأعلن عن إحيائها لمهرجان ضخم في قصر "الثقافة" (أي قصر وأية ثقافة؟) في رام الله. وهرع الوطنيون لمشاهدة الفرقة "العائدة إلى الوطن". وقررت بحسرة ألا أشارك في هذا التطبيع الوطني. وكم كان المشهد سرياليا عندما شاهدت مقطع فيديو من هذا المهرجان والفرقة تغني: هبت النار والبارود غنى" أمام صورة هائلة لرئيس السلطة محمود عباس ( إلى جانب الرئيس السابق عرفات حيث كان المهرجان بمناسبة الذكرى السادسة لاستشهاده). بينما النار الوحيدة التي تهب في ربوع الضفة في هذه الأيام هي نار جيش الاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستوطنين بعد أن أخمد زعماء السلطة المحتفلين النار الوطنية.
تكررت خيبة أملي مرة أخرى قبل عدة أسابيع وتحطم الحلم على صخرة الواقع عندما قرأت عن قدوم عماد آخر من أعمدة الثقافة الوطنية وبالطريقة نفسها، وهو مطرب الثورة بدون منازع أبو عرب. لطالما آمنت، وما زلت، أن حق العودة لا خوف عليه طالما يردد اللاجئون وغير اللاجئين من جماهير الشعب الفلسطيني أغانيه. هل يوجد هناك فلسطيني واحد لم تهزه أغنية: هدي يا بحر هدي حتى الأعماق؟. لا أخفي أنني تصارعت مع نفسي حتى صرعتها ولم اذهب لمشاهدته.
أكاد اليوم أن افقد توازني مرة أخرى وأنا أتابع أخبار "مهرجان فلسطين الدولي" برعاية وزارة التطبيع الثقافي في سلطة أوسلو. لطالما عشقت سعاد الماسي وصوت مكادي نحاس. قد تكون مشاهدتهما في حفل مباشر وحي في رام الله فرصة لا تتكرر. لماذا تتساقط النجوم بهذا الشكل المخزي؟ هل حقا تغيير الزمن إلى هذه الدرجة وأنا من لا يستطيع التخلص من هذه العقلية المتحجرة؟ وماذا إذا كانت السلطة مطبعة؟ وماذا إذا كان قدوم هؤلاء النجوم مرهون بضابط إسرائيلي يحمل ختمه لدمغ عقولنا بالختم الإسرائيلي المتفوق؟ وجاء تصريح لطيفة التونسية ليعيدني إلى رشدي. أكاد لا أعرفها، ونادرا ما استمعت إليها. وقد قرأت بعض التهجمات عليها بسبب موقفها من الثورة التونسية. ولكن تصريحها بعد أن رفضت دعوة المشاركة في مهرجان فلسطين الدولي كان رائعا: أرفض ختم جواز سفري بالخاتم الإسرائيلي، لن أتحمل الوقوف أمام ضابط إسرائيلي على حاجز لكي يسمح لي بالدخول إلى أرض عربية. لي الشرف أن أغني لفلسطين عندما تتحرر ".
إذا كان رفض "التطبيع الوطني" تحجرا فأمنيتي أن يكون هذا الحجر من صوان. شكرا لطيفة وعذرا على ضعف إيماني.
1 comment:
Ali, so sorry that I do not read, write or speak arabic... Any blogs in English, Dutch, French?
Post a Comment