الثورة العربية الكبرى في تونس: الآمال والمخاوف
علي زبيدات - سخنين
الثورات العظمى في تاريخ البشرية ، المنتصرة منها وغير المنتصرة، تحولت عاجلا أم آجلا الى نقيضها، إلى ثورات مضادة. هكذا حدث بالثورة الفرنسية الأولى التي كنست النظام الملكي الإقطاعي إلى مزبلة التاريخ ولكنها سرعان ما بدأت تأكل أبناءها حتى تحولت إلى نظام استبدادي جديد. وهكذا حدث في كومونة باريس حيث تكالبت قوى أوروبا الرجعية لإخمادها وهكذا حدث لثورة أكتوبر العظمى في روسيا التي دشنت عهدا جديدا في تاريخ البشرية ولكنها في النهاية انهارت انهيارا مدويا. كلما كانت الثورة عظيمة وجاءت بتطلعات وآمال عظيمة وفتحت آفاقا واسعة أمام الشعوب كلما كان سقوطها رهيبا ومؤلما. لا تنقص هذه الحقيقة الموضوعية، المرة من أهمية وضرورة الثورات بشيء، بل على العكس من ذلك تماما. فالثورات هي قاطرة التطور التاريخي، وهي تختزل التطور التدريجي الذي يمتد سنين طويلة في وقت قصير لا يتجاوز الشهور القليلة وفي بعض الأحيان الأسابيع القليلة أو حتى الأيام المعدودة. حتى بعد هزيمتها تفرض الثورات العظيمة مطالبها وبرنامجها وأحيانا مبادئها النظرية أيضا على أعدائها ونراهم ينفذون معظم هذه المطالب وهم مرغمون.
الثورة التونسية هي واحدة من هذه الثورات العظيمة. وفي عالمنا العربي هي الثورة العربية الأولى حتى وإن جاءت متأخرة بأكثر من قرنين عن الثورات الحديثة، ولكنها جاءت.
يطلق بعض المؤرخون العرب اسم: الثورة العربية الكبرى على تحالف شريف مكة مع الانجليز في الحرب العالمية الأولى، مع إن هذا التحالف لم يرتق إلى أي شكل من أشكال الثورة أو حتى النضال التحرري التقدمي. بل كان رجعيا منذ البداية حيث بدل الاحتلال التركي بالهيمنة الاستعمارية الأوروبية لا غير ومهد الطريق أمام الحركة الصهيونية لإقامة كيانها على أرض ففلسطين. لا تزال شعوبنا العربية تعاني من آثار ومخلفات هذا التحالف الذي لم ينته تماما حتى يومنا هذا. أما باقي الأحداث التي نطلق عليها مجازا اسم ثورة فلم تكن أكثر من انقلابات عسكرية، اخترعنا العديد من المصطلحات لوصفها مثل: الثورة التصحيحية، ثورة الإنقاذ الوطني، الخ. أو نضالات تحررية وئدت وهي جنين أو أجهضت قبل أن تنمو وتتصاعد وتحولت إلى حركات رجعية كما حصل على الساحة الفلسطينية والتي نصر بعناد على تسميتها بالثورة. النموذج الوحيد الذي اقترب إلى مصاف الثورة الحديثة كانت الثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد في النضال ضد الاستعمار الفرنسي. ولكنها اقتصرت على التحرير الوطني وكانت تقمع كل نضال اجتماعي شعبي. ولن يكون غريبا أن تنتقل شرارة الثورة أول ما تنتقل إلى الجزائر لكي تنجز ما عجز التحرير عن انجازه، ومن ثم إلى سائر الأقطار العربية.
إذن الثورة التونسية هي الثورة الأولى التي تستحق وبامتياز أن نسميها ثورة. للمرة الأولى تخرج الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التونسي بكافة قطاعاته من عمال وطلبة وعاطلين، رجال ونساء، شيوخ وشباب، إلى الشوارع بصدورها العارية وأياديها العزلى تتحدى بلا خوف وبلا رهبة آلة القمع المدججة بالسلاح. تطالب بالخبز والعمل والحرية والكرامة. المشاهد التي رأيناها في الشهر الأخير تعيد إلى أذهاننا مشاهد الثورة الشعبية الأخيرة التي انفجرت في المنطقة عندما قامت الملايين من الشعب الإيراني بطرد الشاه وإسقاط نظامه العميل الذي لم يختلف من حيث الجوهر عن نظام زين العابدين بن علي.
ربع قرن من بناء وتطوير آلة قمع عصرية مؤلفة من جهاز أمني مخابراتي متشعب كالإخطبوط أفراده مدربون على التعذيب بكافة أشكاله الحديثة، يحملون الأسلحة المتطورة وتفويض كامل باستعمالها، هذا بالإضافة إلى السجون المظلمة المكتظة، كل ذلك انهار في أقل من شهر.
ولكن الثورة التونسية، ككل ثورة عظيمة تحمل في أحشائها عنصر فنائها وتحولها إلى نقيضها. على الثورة بمفهومها الإنساني الحضاري أن تبدأ بعد إسقاط نظام الحكم البائد ويجب ألا تنتهي بأي حال من الأحوال مع إسقاط النظام. على الثورة أن تبقى مستمرة. الثورة التي تتوقف تحكم على نفسها بالإعدام. يوجد هناك خطران داهمان يتهددان الثورة التونسية يجب عدم الانتظار حتى ولو للحظة واحدة في مواجهتهما. الخطر الأول: يكمن في تسلل رجالات النظام البائد إلى صفوف الثورة وإفسادها من الداخل. إذ لا يعقل هروب بن علي من البلاد والقبول برئيس وزرائه واقرب معاونيه البقاء على رأس السلطة الجديدة. النظام البائد لا يقتصر على الرئيس الهارب وبعض أفراد عائلته الفاسدين بل هو نظام لطبقة اجتماعية كاملة. وهذه الطبقة تكون على استعداد للتضحية بشخص من قيادتها من أجل إنقاذ نظامها. إعلان وجهاء النظام السابق عن استقالتهم من الحزب الحاكم لا يعدو كونه أكثر من الخديعة لإنقاذ النظام ككل. على الجماهير الثائرة ألا تكتفي بمطالبة هؤلاء التخلي عن مناصبهم، بل يجب المطالبة باعتقالهم فورا وزجهم في السجن ومحاكمتهم على ما اقترفوه من جرائم. الرئيس المؤقت: المبزغ والوزير الأول: الغنوشي ووزير الداخلية: أحمد قريعة، ووزير المالية والدفاع وباقي رموز النظام البائد هم ليسوا نظيفي الأيدي وليسوا ذوي كفاءات عالية كما يدعي الغنوشي بل هم شركاء في الجريمة ويجب أن يلحقوا بالزعيم المخلوع والهارب أو يزج بهم داخل السجون.
الخطر الثاني الذي يتهدد الثورة هو غياب القيادة الثورية. معظم أحزاب المعارضة هي أحزاب انتهازية أو هامشية وهم مستعدين للمتاجرة والمقايضة وبيع الثورة بثمن بخس. ما أحوج تونس اليوم إلى حزب بلشفي يتسلح بالنظرية الثورية والممارسة الثورية يقود الثورة قدما حتى انجاز مهامها الإستراتيجية.
مهما كانت التطورات السياسية على الساحة التونسية فقد أثبتت الثورة أن الشعوب العربية حية وقادرة على الانطلاق نحو الحرية. وأثبتت أن هذه الأنظمة المتهرئة هي في نهاية المطاف نمور من ورق ولن تستطيع أجهزتها الأمنية إنقاذها. قد لا تنتقل شرارة الثورة حالا إلى باقي الدول العربية ولكنها قادمة لا محالة. لقد بدأت فرائص الحكام العرب ترتجف وخوفهم لا يوصف. لم نسمع أحد منهم وقفة بشكل فعلي إلى جانب الثورة وقد توحدوا جميعا في خندق واحد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام البائد لأنه في الوقت نفسه إنقاذا لهم.
على الساحة الفلسطينية، ليس من باب الصدفة أن يخيم الصمت على رموز السلطة الفلسطينية خصوصا أولئك الذين يعدون من أيتام بن علي وترعرعوا على فضلات نظامه. على عكس الجماهير الفلسطينية في كل مكان الاشد حماسا وتأييدا للثورة. بالرغم من تعاسة وعدم استقلالية هذه السلطة فإن رياح الثورة عندما تصلها لن تقفز عنها، وحينئذ لن يحميها جهازها الأمني المدعوم أمريكيا وإسرائيليا وأردنيا.
عاشت الثورة العربية في تونس وعقبال شعبنا الفلسطيني وكافة الشعوب العربية وشعوب العالم التي تناضل من أجل حريتها وكرامتها.
علي زبيدات - سخنين
الثورات العظمى في تاريخ البشرية ، المنتصرة منها وغير المنتصرة، تحولت عاجلا أم آجلا الى نقيضها، إلى ثورات مضادة. هكذا حدث بالثورة الفرنسية الأولى التي كنست النظام الملكي الإقطاعي إلى مزبلة التاريخ ولكنها سرعان ما بدأت تأكل أبناءها حتى تحولت إلى نظام استبدادي جديد. وهكذا حدث في كومونة باريس حيث تكالبت قوى أوروبا الرجعية لإخمادها وهكذا حدث لثورة أكتوبر العظمى في روسيا التي دشنت عهدا جديدا في تاريخ البشرية ولكنها في النهاية انهارت انهيارا مدويا. كلما كانت الثورة عظيمة وجاءت بتطلعات وآمال عظيمة وفتحت آفاقا واسعة أمام الشعوب كلما كان سقوطها رهيبا ومؤلما. لا تنقص هذه الحقيقة الموضوعية، المرة من أهمية وضرورة الثورات بشيء، بل على العكس من ذلك تماما. فالثورات هي قاطرة التطور التاريخي، وهي تختزل التطور التدريجي الذي يمتد سنين طويلة في وقت قصير لا يتجاوز الشهور القليلة وفي بعض الأحيان الأسابيع القليلة أو حتى الأيام المعدودة. حتى بعد هزيمتها تفرض الثورات العظيمة مطالبها وبرنامجها وأحيانا مبادئها النظرية أيضا على أعدائها ونراهم ينفذون معظم هذه المطالب وهم مرغمون.
الثورة التونسية هي واحدة من هذه الثورات العظيمة. وفي عالمنا العربي هي الثورة العربية الأولى حتى وإن جاءت متأخرة بأكثر من قرنين عن الثورات الحديثة، ولكنها جاءت.
يطلق بعض المؤرخون العرب اسم: الثورة العربية الكبرى على تحالف شريف مكة مع الانجليز في الحرب العالمية الأولى، مع إن هذا التحالف لم يرتق إلى أي شكل من أشكال الثورة أو حتى النضال التحرري التقدمي. بل كان رجعيا منذ البداية حيث بدل الاحتلال التركي بالهيمنة الاستعمارية الأوروبية لا غير ومهد الطريق أمام الحركة الصهيونية لإقامة كيانها على أرض ففلسطين. لا تزال شعوبنا العربية تعاني من آثار ومخلفات هذا التحالف الذي لم ينته تماما حتى يومنا هذا. أما باقي الأحداث التي نطلق عليها مجازا اسم ثورة فلم تكن أكثر من انقلابات عسكرية، اخترعنا العديد من المصطلحات لوصفها مثل: الثورة التصحيحية، ثورة الإنقاذ الوطني، الخ. أو نضالات تحررية وئدت وهي جنين أو أجهضت قبل أن تنمو وتتصاعد وتحولت إلى حركات رجعية كما حصل على الساحة الفلسطينية والتي نصر بعناد على تسميتها بالثورة. النموذج الوحيد الذي اقترب إلى مصاف الثورة الحديثة كانت الثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد في النضال ضد الاستعمار الفرنسي. ولكنها اقتصرت على التحرير الوطني وكانت تقمع كل نضال اجتماعي شعبي. ولن يكون غريبا أن تنتقل شرارة الثورة أول ما تنتقل إلى الجزائر لكي تنجز ما عجز التحرير عن انجازه، ومن ثم إلى سائر الأقطار العربية.
إذن الثورة التونسية هي الثورة الأولى التي تستحق وبامتياز أن نسميها ثورة. للمرة الأولى تخرج الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التونسي بكافة قطاعاته من عمال وطلبة وعاطلين، رجال ونساء، شيوخ وشباب، إلى الشوارع بصدورها العارية وأياديها العزلى تتحدى بلا خوف وبلا رهبة آلة القمع المدججة بالسلاح. تطالب بالخبز والعمل والحرية والكرامة. المشاهد التي رأيناها في الشهر الأخير تعيد إلى أذهاننا مشاهد الثورة الشعبية الأخيرة التي انفجرت في المنطقة عندما قامت الملايين من الشعب الإيراني بطرد الشاه وإسقاط نظامه العميل الذي لم يختلف من حيث الجوهر عن نظام زين العابدين بن علي.
ربع قرن من بناء وتطوير آلة قمع عصرية مؤلفة من جهاز أمني مخابراتي متشعب كالإخطبوط أفراده مدربون على التعذيب بكافة أشكاله الحديثة، يحملون الأسلحة المتطورة وتفويض كامل باستعمالها، هذا بالإضافة إلى السجون المظلمة المكتظة، كل ذلك انهار في أقل من شهر.
ولكن الثورة التونسية، ككل ثورة عظيمة تحمل في أحشائها عنصر فنائها وتحولها إلى نقيضها. على الثورة بمفهومها الإنساني الحضاري أن تبدأ بعد إسقاط نظام الحكم البائد ويجب ألا تنتهي بأي حال من الأحوال مع إسقاط النظام. على الثورة أن تبقى مستمرة. الثورة التي تتوقف تحكم على نفسها بالإعدام. يوجد هناك خطران داهمان يتهددان الثورة التونسية يجب عدم الانتظار حتى ولو للحظة واحدة في مواجهتهما. الخطر الأول: يكمن في تسلل رجالات النظام البائد إلى صفوف الثورة وإفسادها من الداخل. إذ لا يعقل هروب بن علي من البلاد والقبول برئيس وزرائه واقرب معاونيه البقاء على رأس السلطة الجديدة. النظام البائد لا يقتصر على الرئيس الهارب وبعض أفراد عائلته الفاسدين بل هو نظام لطبقة اجتماعية كاملة. وهذه الطبقة تكون على استعداد للتضحية بشخص من قيادتها من أجل إنقاذ نظامها. إعلان وجهاء النظام السابق عن استقالتهم من الحزب الحاكم لا يعدو كونه أكثر من الخديعة لإنقاذ النظام ككل. على الجماهير الثائرة ألا تكتفي بمطالبة هؤلاء التخلي عن مناصبهم، بل يجب المطالبة باعتقالهم فورا وزجهم في السجن ومحاكمتهم على ما اقترفوه من جرائم. الرئيس المؤقت: المبزغ والوزير الأول: الغنوشي ووزير الداخلية: أحمد قريعة، ووزير المالية والدفاع وباقي رموز النظام البائد هم ليسوا نظيفي الأيدي وليسوا ذوي كفاءات عالية كما يدعي الغنوشي بل هم شركاء في الجريمة ويجب أن يلحقوا بالزعيم المخلوع والهارب أو يزج بهم داخل السجون.
الخطر الثاني الذي يتهدد الثورة هو غياب القيادة الثورية. معظم أحزاب المعارضة هي أحزاب انتهازية أو هامشية وهم مستعدين للمتاجرة والمقايضة وبيع الثورة بثمن بخس. ما أحوج تونس اليوم إلى حزب بلشفي يتسلح بالنظرية الثورية والممارسة الثورية يقود الثورة قدما حتى انجاز مهامها الإستراتيجية.
مهما كانت التطورات السياسية على الساحة التونسية فقد أثبتت الثورة أن الشعوب العربية حية وقادرة على الانطلاق نحو الحرية. وأثبتت أن هذه الأنظمة المتهرئة هي في نهاية المطاف نمور من ورق ولن تستطيع أجهزتها الأمنية إنقاذها. قد لا تنتقل شرارة الثورة حالا إلى باقي الدول العربية ولكنها قادمة لا محالة. لقد بدأت فرائص الحكام العرب ترتجف وخوفهم لا يوصف. لم نسمع أحد منهم وقفة بشكل فعلي إلى جانب الثورة وقد توحدوا جميعا في خندق واحد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام البائد لأنه في الوقت نفسه إنقاذا لهم.
على الساحة الفلسطينية، ليس من باب الصدفة أن يخيم الصمت على رموز السلطة الفلسطينية خصوصا أولئك الذين يعدون من أيتام بن علي وترعرعوا على فضلات نظامه. على عكس الجماهير الفلسطينية في كل مكان الاشد حماسا وتأييدا للثورة. بالرغم من تعاسة وعدم استقلالية هذه السلطة فإن رياح الثورة عندما تصلها لن تقفز عنها، وحينئذ لن يحميها جهازها الأمني المدعوم أمريكيا وإسرائيليا وأردنيا.
عاشت الثورة العربية في تونس وعقبال شعبنا الفلسطيني وكافة الشعوب العربية وشعوب العالم التي تناضل من أجل حريتها وكرامتها.
No comments:
Post a Comment