كشف المستور وإخفاء المكشوف
علي زبيدات – سخنين
ماذا تبقى من القضية الفلسطينية بعد الكشف عن الوثائق السرية للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في قناة الجزيرة؟ هل هذه هي الثورة الفلسطينية؟ هل هذه حركة تحرر وطني أصلا؟ إنه لأمر محزن حقا بل محبط. كل فلسطيني يرى ما يرى ويسمع ما يسمع ولا تصيبه حالة من الإحباط الشديد يكون عديم المشاعر.
وثائق الجزيرة كانت معروفة للجميع، إن لم يكن بتفاصيلها فبخطوطها العريضة وبروحها. من لا يعرف أن المفاوض الفلسطيني قدم تنازلات غير مسبوقة على جميع الأصعدة؟ من لا يعرف أن حق العودة أستعمل كورقة يتلاعب بها المفاوض الفلسطيني قبل الإسرائيلي على الأقل منذ وثيقة جينيف التي وقعها ياسر عبد ربه ويوسي بيلين وحتى اليوم؟ ومن لم يعرف أن المفاوض الفلسطيني قدم التنازلات المجانية في القدس؟ هل كان هناك حاجة لوثيقة خاصة تحمل توقيع صائب عريقات لكي نعرف أن الجانب الفلسطيني مستعد للتخلي عن الحي اليهودي والارمني؟ وهل كنا بحاجة إلى تصريحات ليبرمان لكي نعلم أن المفاوض الفلسطيني سوف يقبل بمبدأ تبادل الأراضي والتبادل السكاني؟ أما عن التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل فحدث بلا حرج.
المصيبة ليست بالوثائق نفسها، المصيبة في رد الفعل الفلسطيني المخزي عليها. هل هذا هو شعب الجبارين؟ هل هذا هو الشعب الذي اكتوى بلهيب النكبة واقسم أن يناضل حتى العودة والتحرير؟
لم يكن غريبا أن يقف رجال السلطة وقفة رجل واحد للدفاع عن سلطتهم البائسة. ولكن الغريب كل الغرابة أن يقف الشعب الفلسطيني تقريبا برمته وقفة المتفرج أو اللامبالي أو حتى المتفهم والمتعاون.
في سياق دفاعه عن السلطة يقول عباس: " كل المفاوضات أو اللقاءات وكل قضية تطرح علينا نقدمها بتفاصيلها للدول العربية مشفوعة بالوثائق". صح النوم، وكأننا لا نعرف أن الدول العربية متورطة بهذه المفاوضات وهذه التنازلات من رأسها إلى أخمص قدميها. وكأننا لا نعلم أن محمود عباس لا يجرؤ على المضي خطوة واحدة في طريق المفاوضات بدون مباركة مبارك والعبداللين (ملكي الأردن والسعودية).
تصرخ وسائل الإعلام الفلسطينية الرسمية بصوت واحد رتيب: قناة الجزيرة شنت حربها لتصفية محمود عباس سياسيا ومن أجل إسقاط السلطة، فهي تثير الفتن وتضعف المفاوض الفلسطيني أمام إسرائيل وأمريكا وتخدم الصهيونية وإيران وحماس وحزب الله، وتسحب الورقة الرابحة دوما: وهي أن أكبر قاعدة أمريكية موجودة في قطر وعلى مرمى حجر من مكاتب الجزيرة في الدوحة. وفي خضم هذا الصراخ الصاخب لا نسمع حتى ولا كلمة واحدة عن مضمون الوثائق.
لست من عشاق قطر أو أية دولة خليجية، بل اعتبرها جميعا دولا اصطناعية خلقها الاستعمار البريطاني لتمزيق الوطن العربي ولو لم تكن رابضة على بحر من النفط لما اهتم بها أحد. ولكن هذا ليس موضوعنا هنا. الموضوع هو الوثائق ومضامينها. يقول صائب عريقات المتهم رقم واحد في هذه الوثائق: لو كان ما جاء في هذه الوثائق من تنازلات صحيح فأنا أستغرب لماذا لم تقبلها إسرائيل. أنظروا إلى درجة غباء كبير المفاوضين: إسرائيل ترفض ليس فقط عودة 100 ألف لاجئ بل ترفض عودة ألف لاجئ بل عودة مائة لاجئ، بل أكثر من ذلك إنها تريد طرد أكبر عدد من السكان الفلسطينيين الذين لم يهجروا عام 1948. هل تعرف الآن لماذا ترفض إسرائيل ولماذا تماطل؟ إسرائيل ليست معنية بالسيطرة على الحي اليهودي والارمني فحسب بل تريد السيطرة على القدس بكل أحيائها أما قدسكم فيجب أن تبحثوا عنها في أبو ديس أو في أي مكان آخر خلف الجدار العازل. إسرائيل لن تتنازل عن مستوطنات أبو جبل أبو غنيم أو أية مستوطنة تعتبرها هي غير شرعية حتى لو قبلتم باقي المستوطنات بل هي تريد بناء المزيد من هذه المستوطنات. إسرائيل لا تكتفي بالتنسيق الأمني لتصريف الأعمال اليومية والتخفيف عن المواطنين بل تريدكم عملاء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وقد قطعتم شوطا كبيرا في هذا الاتجاه حتى استحققتم شهادة تقدير ومكافأة من الاحتلال على ذلك.
يضيف ياسر عبد ربه في إطار هجومه على الجزيرة، أنها تزيف الحقائق وتغير النصوص وتقتطع كلمة من هنا ومن هناك لخدمة موقفها المسبق. فهل تفضلت يا أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقلت لنا ما هي الحقائق بدون تزييف؟ وما هي النصوص الأصلية؟ وما هو دورك في هذه المفاوضات وهذه التنازلات؟
كالعادة لا تقف زعامة السلطة الفلسطينية الفتحاوية وحدها في هذا الموقف، إذ يلتف حولها مجموعة من الأحزاب والشخصيات الطفيلية التي تسمي نفسها يسارية. فهذا حزب الشعب على لسان نافذ غنيم وحنا عميرة يصرحان بأن ما تقوم به الجزيرة "لا يخدم الصمود الرسمي الرافض للضغوط الإسرائيلية والأمريكية لمواصلة المفاوضات ولا يخدم الجهود الدبلوماسية لكسب تأييد العالم". أما أحمد مجدلاني من النضال الشعبي فقد صرح بقوله: "أن هذه الوثائق محاولة فاشلة للاغتيال السياسي لعباس وللقيادة الفلسطينية". وبمثل هذا الكلام صرحت فدا والجبهة الديمقراطية. أي باختصار جميع المستفيدين من أموال الدول المانحة.
أما عندنا في الداخل فإن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة تلعب دور شاهد الزور وتقود حملة الدفاع عن السلطة حيث فتحت موقعها على مصراعيه أمام رموز السلطة للتعبير عن آرائهم وقد انتدب عودة بشارات ليكتب دفاعا عن السلطة التي تربطها علاقة متينة بالجبهة بشن الهجوم على عبد الباري عطوان ووصفه "بالقط الذي عين حارسا على اللبن". يا للوقاحة!. هذا ما يذكرني بالنائب محمد بركة عندما جلس في الصف الأول من مهرجان خطابي نظمته السلطة الفلسطينية في رام الله لإحياء يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وكلما صرح محمود عباس بشيء كان يوجه كلامه إلى بركة يقول: أليس هذا صحيحا يا أخ محمد؟ وكان محمد يهز رأسه علامة الموافقة.
هذه هي مهمة شهداء الزور: إخفاء المكشوف.
بينما تموج الأرض تحت أقدام الطغاة الفاسدين ليس فقط في تونس بل أيضا في الجزائر ومصر والأردن فمن العار أن تبقى هذه الطغمة التي تختبئ خلف أعدل قضية في عالمنا الراهن تدفن رأسها بالرمال وتظن أنه لا يراها أحد وتنام مطمئنة.
في سنوات السبعين من القرن الماضي لعبت أموال النفط المتدفقة على منظمة التحرير الفلسطينية دورا حاسما في إفساد قطاعات واسعة وحرف المنظمة عن طريقها النضالي، واليوم تلعب أموال الدول المانحة الدور نفسه. لكن الرشوات لم تكن أبدا ضمانا لسلطة فاسدة. وكذلك الأجهزة الأمنية مهما بلغت من جبروت لن تشكل ضمانا لها. وهذا ما أثبتته الثورة الشعبية في تونس وهذا ما سوف تثبته الجماهير الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها.