عندما كان أحدنا يعتقل لسباب سياسية(او امنية حسب القاموس الاسرائيلي) كانت الطريقة المفضلة عند المحققين لإبتزاز الإعترافات بما فعله أو لم يفعله المعتقلون، هو أن يقسم المحققون انفسهم الى محقق "سيئ" شرير، عنيف، يستعمل القوة والتهديد وإلى محقق "جيد" طيب القلب، رحيم يريد مساعدة المعتقل. فكان المحقق السيء يدخل أولا الى المعتقل ويبادره بمثل هذا الكلام: "انت مخرب؟ تريد أن تحرر فلسطين؟ سوف ترى نجوم الظهر هنا. سوف نحطمك تحطيما وتقضي باقي حياتك وراء القضبان. سوف تندم على اليوم الذي ولدتك امك به". مثل هذه التهديدات التي لا تنتهي ويرافقها في معظم الاحيان بعض الصفعات والركلات والشبح وغيرها من اساليب التعذيب الجسدي.مؤكدا انه لن يتوقف حتى يحصل على إعتراف كامل من المعتقل. ولكن سرعان ما كان المحقق "السيء" يغادر غرفة التحقيق ويدخل المحقق "الجيد" ويبدأ حديثه الناعم على النحو التالي: " ماذا جرى لك هل جننت؟ انت تبدو لي انسان عاقل فلماذا تخرب مستقبلك، انت ارتكبت خطأ ولكن انا استطيع مساعدتك. إعترف بما فعلته وانا سوف اخرجك من هذه الورطة. بعدين يا حبيبي: مائة ام تبكي وأمك لا تبكي" ومثل هذا الكلام المعسول الذي لا ينتهي. المهم في نهاية المطاف الحصول على الاعتراف. غني عن القول انه مع معتقل آخر كان المحققون يتبادلون الادوار.
يبدو أن هذا الاسلوب ليس إختراعا اسرائيليا. فهو موجود عند كافة مخابرات العالم. وهو ليس سوى تطبيق لسياسة العصا والجزرة المعروفة وللمكيافيلية السياسية التي تقول: الغاية تبرر الوسيلة. فغاية المحقق أن يحصل على إعتراف المعتقل ومن أجل ذلك كل الوسائل متاحة.
المصيبة الحقيقية هو عندما يستعمل هذا الاسلوب المخابراتي ليس ضد معتقل بل ضد شعب بأسره وعندما لا يكون حكرا على محققين هذه هي وظيفتهم في نهاية المطاف بل عندما يشارك العالم أجمع في استعماله.
اليوم، المطروح على الشعب الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل. فهذه الرباعية المكونة من الامم المنحدة والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا تضع شرطا مسبقا لكل مساعدة او لكل مفاوضات: الاعتراف بإسرائيل اولا. الدول العربية من خلال مبادرتها السلمية تدعو الى الاعتراف والتطبيع. السلطة الفلسطينية تدعو ما تبقى من مقاومة الى نبذ سلاح المقاومة واللجوء الى الاعتراف.
حرب الابادة التي شنتها اسرائيل مؤخرا على غزة كان هدفها الاول والاخير هو فرض الاعتراف على المقاومة. أي فرض "السلام" الاسرائيلي- الامريكي. ولكنها فشلت في تحقيق غايتها هذه. فلجأت الى مؤتمر شرم الشيخ لإعادة "إعمار غزة" ولكن الغاية الحقيقية كانت انتزاع الاعتراف بوسائل أخرى. أمريكا تعهدت بدفع 900 مليون دولار بشرط الاعتراف بإسرائيل اولا. الاتحاد الاوروبي ودول النفط العربية حذت حذوها. رئيس السلطة الفلسطينية ناشد المقاومة بالاعتراف. حتى وصل ثمن الاعتراف الى حوالي 4 ونصف مليارد دولار. قد يبدو هذا المبلغ للوهلة الاولى خياليا ولكنه لا يتجاوز المساعدات السنوية التي تمنحها الولايات المتحدة لإسرائيل.
ماذا يعني الاعتراف بإسرائيل؟
لم تكتف الدولة العبرية بتشريد الشعب الفلسطيني ونهب ارضه وسلب ممتلكاته ولكنها تطالبه بإن يعترف أن ما قامت به هو من حقها. الاعتراف بإسرائيل يعني أن كل ما قامت به منذ عام النكبة وحتى هذا اليوم هو أمر شرعي. الاعتراف يعني ان كل الحروب التي شنتها اسرائيل هي ضمن حقها في الدفاع عن النفس. الاعتراف يإسرائيل يعني أكثر من ذلك. انه يعني أن المشروع الصهيوني القائم على الأساطير والمبادئ العنصرية هو مشروع شرعي، هو حركة تحرر وطني وليس مشروعا استعماريا بإمتياز. في الوقت نفسه يعني أن نسحب إعترافنا بانفسنا كشعب، أن نسحب إعترافنا بتاريخنا وحضارتنا.
إسرائيل تستطيع أن تقتل وتدمر وتحتل ولكنها تعرف تمام المعرفة أن كل ذلك لا أهمية له إذا لم يتوج بالاعتراف. وللحقيقة نقول، ان اسرائيل إستطاعت أن تحقق انجازات هامة في هذا المجال. ولا أقصد هنا الاعتراف الدولي بها منذ قرار التقسيم. فالاعتراف الدولي لا قيمة له ما دام صاحب القضية لا يعترف. فالصين الوطنية وخلال فترة طويلة نالت إعتراف الامم المتحدة ولكن موقف الصين الشعبية الصامد جعل من هذا الاعتراف أمرا تافها سرعان ما زال. لذلك تركز إسرائيل على انتزاع الاعتراف من أصحاب الشأن: من الشعوب العربية بشكل عام ومن الشعب الفلسطيني بشكل خاص. وقد استطاعات كما قلت ان تخترق الجبهة العربية وتقلب لاءات الخرطوم الشهيرة رأسا على عقب في قمة بيروت. هذه بعض محطات الاعتراف: قرار 242 و 338، اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من دائرة الصراع، اتفاقيات اوسلو، أتفاقيات وادي عربة، مبادرة السلام العربية.
إنتصرت اسرائيل على الصعيد الرسمي العربي بعد أن فرضت الاعتراف على دول الجامعة العربية. ولكنها فشلت على الصعيد الشعبي. فالشعوب العربية رفضت وترفض الاعتراف والتطبيع. وإنتصرت اسرائيل على الصعيد الرسمي الفلسطيني بعد أن استحوذت على اعتراف السلطة.
المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هي القلعة الاخيرة لعدم الاعتراف والتطبيع. لذلك يتحد العالم الرسمي لإسقاطها عن طريق القتل والدمار والحصار إن أمكن أو عن طريق الاموال والرشوات. معركة الاعتراف في غزة هي معركة الشعوب العربية والشعب الفلسطيني الاخيرة. الاعتراف هو الموت واللا إعتراف هو الحياة، ولا خيار أمام الشعوب إلا الحياة.
وأخيرا، لماذا لا نطالب إسرائيل بالاعتراف؟ الا يوجد لديها ما تعترف به؟
No comments:
Post a Comment