تعرفون حكاية الشيخ الذي كان يعرج بشكل دائم على دار للدعارة فسألوه: الى أين يا شيخ؟ فأجابهم للصلاة. فقالوا له: ما نعرفه أن من يريد الصلاةيذهب الى المسجد وليس الى دار للدعارة. هذه هي حكايتنان بل هذه هي مصيبتنا، بإختصار مع المناضلين الاشاوس من الاحزاب العربية المتهافتة هذه الايام على إنتخابات الكنيست . تسأل أحدهم: الى أين يا أخ؟ الى أين يا رفيق؟ فيجيبك بكل فخر وإعتزاز: الى الكنيست. وماذا تفعل في الكنيست؟ أناضل ضد التمييز العنصري ومن أجل المساواة واطالب بالحقوق المشروعة لجماهير شعبنا، أنا في الكنيست من أجل خدمة هذا الشعب المظلوم.
بعد المجازر التي إقترفتها الدولة الصهيونية في غزة والتي تشيب من هولها الصبيان، وبعد أن شاهدنا الدم المسفوك بالالوان الطبيعية وببث مباشر على الشاشة التي أمامنا، ندعو أصحاب الضمائر الحية من جماهير شعبنا أن يقفوا للحظة واحدة أمام ضمائرهم ويحاولوا الاجابة عن هذا السؤال: هل حقا الكنيست الصهيوني مكان للنضال والمطالبة بالحقوق أم هو وكر للدعارة السياسية حيث تطبخ به المجازر التي لا تتوقف ضد شعبنا؟
لنبدأ من النهاية. اليس الثالوث المجرم الذين قادوا مجازر غزة ونفذوها، أولمرت وبراك وليفني هم أعضاء في الكنيست ؟ وهم الذين يقودون هذه المؤسسة العنصرية؟ ألم يكن جميع من ارتكبوا المجازر في هذه الدولة في حق شعبنا من بن غوريون الى موشه ديان الى غولدا مئير الى بيغن وشامير ورابين وبيرس وشارون ونتنياهو وغيرهم الكثيرون أعضاء في الكنيست؟
يوجد هناك من يعيدنا الى كتابات جان جاك روسو ومونتسكيو ويلفت انتباهنا الى نظرية الفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في الدولة "الديموقراطية" الحديثة. ويقول: الحكومة هي التي تنفذ الجرائم وهي المسؤولة عنها والكنيست هي المؤسسة الوحيدة التي تستطيع لجمها. هذا المنطق الهزيل المريض يتهاوى أمام الواقع الذي يؤكد العكس تماما: الكنيست هي التي فوضت هذه الحكومة كما فوضت الحكومات السابقة بتنفيذ هذه الجرائم. الفصل بين السلطات وخصوصا في دولة اسرائيل ليس سوى وهم لم يعد يصدقه حتى طلاب المدارس الابتدائية في دروس المدنيات. ما كان قبل 250 سنة يسمى فصلا بين السلطات ليس اليوم أكثر من تقسيم أدوار، من تعاون وتنسيق بين هذه السلطات لإنجاح النظام ككل. البرلمان يسن القوانين والحكومة تنفذها والمحكمة تحاكم من يخرقها وهكذا تبقى الدائرة مغلقة. هذا هو جوهر الديموقراطية الغربية التي تبنت إسرائيل أقبح وابشع اشكالها. والتي وصفها كارل ماركس منذ زمن طويل:" الدولة الديموقراطية الرأسمالية تمنح الجماهير المسحوقة الحق في أن تختار من يقمعها كل اربع او خمس سنوات". هذا الكلام كان وصفا للدول الديموقراطية الراسمالية التي تطورت بشكل طبيعي من خلال الصراع الطبقي فما بالكم بدولة مصطنعة زرعت على هذه الارض بالقوة بعد إغتصابها وتهجير أهلها؟
لنعود الى البرلمان الاسرائيلي، الكنيست، حتى الاسم ينضح بالتمييز والتزييف ولا تربطه أية صلة بثقافتنا او حضارتنا، وهو مأخوذ من الاساطير المؤسسة لهذه الدولة ابتداء من الكنيست الكبيرة بعد السبي المزعوم، مرورا بالمؤتمر الصهيوني الاول في بازل عام 1897 وحتى الجمعية التأسيسية والكنيست الحديثة التي أعلن من على منصتها قيام دولة اسرائيل عام 1948.
منذ إعلان ما يسمى بوثيقة "الاستقلال" التي تنفي وجودنا في هذه البلاد نفيا مطلقا وحتى اليوم، قامت الكنيست بسن مئات القوانين المجحفة بحق شعبنا وتجريدنا من ابسط حقوقنا الطبيعية واولها حقنا بالحياة على أرضنا. فقد سنت الكنيست القوانين التي تخلد نفينا في المهاجر وبالمقابل سنت "قانون العودة" الذي يمنح اليهودي الذي لا تربطه اية صلة بالبلاد الحق بأن يستوطن في أي مكان يريد على وطننا. وسنت عشرات القوانين لشرعنة نهب اراضينا وبيوتنا وممتلكاتنا. بالاضافة الى ذلكن تمنح الكنيست الحكومة ثقتها بعد أن توافق على خطوطها السياسية العريضة وتراقب عملها من خلال اللجان البرلمانية. وهذا يدل على أن الكنيست هي التي تجسد الطبيعة العنصرية للدولة وتتحمل المسؤولية الاولى عن نكبتنا، أضعاف ما تتحمله الحكومات المتتالية. أهمية البرلمان في كل نظام تفوق أهمية اية حكومة. فالحكومات تقوم وتسقط وتتغير بينما البرلمان هو الذي يمنح النظام استمراريته. لذلك فإن دخول النواب العرب للكنيست بحجة محاربة سياسة الحكومة هو إفتراء وفي احسن الحالات هو غباء سياسي. وهم كمن يرتكب الكبائر بدون حرج ويأنف عن ارتكاب الصغائر.
بعد قرار لجنة الانتخابات المركزية بشطب قائمتين عربيتين ومن ثم قرار المحكمة بشطب قرار الشطب، اتضح مدى زيف وعبثية هذه اللعبة وقوانينها التي تراوح بين عنصرية النظام وبين قدرته على الخداع. لكي تمر كذبة الديموقراطية محليا وعالميا، يكون النظام بحاجة الى معارضة. في إسرائيل يتم إستخدام النواب العرب كورقة لستر عورات النظام والتغطية على جرائمه التي يقترفها. الاحزاب الصهيونية ليست بحاجة ماسة الى نواب عرب في صفوفها وليس من باب الصدفة وجود نائب عربي واحد في الاحزاب الصهيونية المركزية ويستعمل عادة للزينة لا أكثر ولا اقل. ولكن هذه الاحزاب بحاجة الى 10 أعضاء كنيست عرب على الاقل، يشتمون ويصرخون ويعارضون لكي يستطيعوا بعد ذلك الخروج الى العالم حتى بعد المجازر التي ارتكبت مؤخرا في غزة ويقولوا: هذه هي الديمقراطية الاسرائيلية، للنواب العرب الحرية في شتمنا في عقر دارنا.
بعد قرار لجنة الانتخابات المركزية بشطب القائمتين العربيتين لوح حزب التجمع الوطني الديموقراطي باللجوء الى "بدائل سياسية وشعبية لا ترتاح لها الدولة" على حد تعبير السكرتير العام عوض عبدالفتاح. أما رئيس القائمة النائب جمال زحالقة فقد صرح:" لا يصنعون لنا معروفا بل عليهم أن شكروننا على خيارنا بالمشاركة بالانتخاابات البرلمانية، وفي حالة شطب التجمع ستجري مقاطعة جماهيرية للإنتخابات". هذه التصريحات تذكرنا بما قاله القائد التاريخي لهذا الحزب، عزمي بشارة بعد أن نفى نفسه، بإن النضال البرلماني قد استنفذ نفسه ويوجد أمام حزبه خيارات أخرى.
ولكن الشعارات شيء والسياسة العملية شيء آخر. فسرعان ما هرول الحزب الى المحكمة الاسرائيلية ليقدم استئنافا على قرار الشطب، وهناك نفى زعامة الحزب التهم الموجهة ضدهم واعلنوا مرة أخرى اعترافهم والتزامهم بالدولة العبرية كتجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره. وأكبر دليل على مصداقيتهم أنهم في حالة دخولهم للكنيست سوف يقسمون يمين الولاء للدولة تماما مثل النواب الصهاينة الذين طالبوا بشطبهم.
وعند خروج المشطوبين "منتصرين" من قاعة المحكمة صرح بعضهم قائلا: والان بعد أن حققنا النصر على ليبرمان الترانسفيري علينا أن نحقق النصر على الذين يريدون لنا الترانسفير السياسي من الداخل والذين ينادون بمقاطعة الانتخابات. حتى أن بعض الاصوات لم تخجل من القول: أن المقاطعين لإنتخابات الكنيست أشد خطرا من ليبرمان نفسه وكرروا الفرية المجوجة أن المقاطعة هي دعم للأحزاب الصهيونية.
هذا في الوقت الذي كان محمد كناعنة، الامين العام لحركة أبناء البلد التي تقود حركة المقاطعة يصرح:" اننا في حركة أبناء البلد نشجب ونستنكر قرار لجنة الانتخابات المركزية بشطب قائمتي الموحدة والتجمع ونعتبرها ملاحقة عنصرية فاشية ومحاولة لضرب القوى السياسية الفاعلة والحية، بالرغم من مقاطعتنا للإنتخابات ننظر بخطورة لهذا الاسلوب".
وانا هنا اوجه اللوم الى الرفيق محمد كناعنة، ولو كنت مكانه لقلت:" هذه هي المؤسسة التي راهنتم عليها 60 عاما تلفظكم من داخلها، تدوس على كرامتكم وتعاملكم كما تعامل المومس وضربتم بعرض الحائط كل ما قلناه عنها. تستحقون ما فعلوه بكم، من غير شماتة لعلكم تستخلصون العبر. ولكن من يهن يسهل الهوان عليه، ما لجرح بميت إيلام..
نعم، الكنيست ليست مكانا للنضال الوطني الشريف كما أن دار الدعارة ليست مكانا للصلاة. وكما قال أمير البيان، شكيب ارسلان:" يفكر الوطني بالاجيال القادمة اما السياسي فيفكر بالانتخابات القادمة". من أجل فلسطين، من أجل العودة ومن أجل الاجيال القادمة نناشد جماهيرنا الفلسطينية أن تقاطع انتخابات الكنيست، أن تنزع الشرعية عن هذه المؤسسة اللاشرعية حسب كافة القيم والمقاييس الاخلاقية. هذه المؤسسة ملطخة بدماء اطفال غزة تماما كالحكومة والجيش، بل هي التي تتحمل المسؤولية الاولى.
لا يكفي ان نهتف بالشعارات الرنانة ونقول نحن جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، واننا شعب واحد مهما تشتتنا وتمزقنا. كيف نقبل بهذا الفتات وباقي شعبنا محروم من أبسط حقوقه؟ لماذا نناشد أهالي القدس بمقاطعة الانتخابات ولا نطبق ذلك على انفسنا؟ هل لأننا، بعيدا عن الشعارات، نعترف بواقع الاحتلال ونرى أن مصيرنا مرتبط باسرائيل وليس بمستقبل شعبنا؟ ألم تكن أحد اسباب رفضنا لاتفاقيات أوسلو هو شطبنا من معادلة حل القضية الفلسطينية؟ ولأن هذه الاتفاقيات تعاملت مع شعبنا كأجزاء مبتورة؟
الدعوة الى مقاطعة انتخابات الكنيست لا تعني بأي حال من الاحوال التقوقع في البيوت ولا تعني صم الآذان وإغماض العيون عن آلام شعبنا وعن النضال من أجل تحقيق مطالبه العادلة. بل على العكس من ذلك تماما: مقاطعة الانتخابات للكنيست الصهيوني تعني قيادة النضال في مساره الصحيح، تعني ما لمح اليه البعض حينما وقف للحظة امام خطر الشطب: اللجوء الى "بدائل سياسية شعبية". تعني بناء مؤسساتنا الوطنية التي توحدنا كشعب ولا تفرقنا. تعني الحفاظ على هويتنا الوطنية ورفض الاسرلة مهما كانت التبريرات والتسويغات. التهافت على انتخابات الكنيست هي عملية تطبيع واسرلة الى ابعد الحدود ولن تفيد كل الفلذكات الكلامية طمس هذه الحقيقة. ليكن شعارنا الوطني الصادق: هذا هو وطننا الذي لا وطن لنا سواه ولكن هذه الدولة ليست دولتنا.