في هذا العصر العربي البائس حيث تسير دول الجامعة العربية كالقطيع في ركب الولايات الامريكية وتلهث لتطبيع علاقاتها مع الدولة الصهيونية، كانت سوريا تشكل ظاهرة فريدة من نوعها. فقد كانت لفترة طويلة تقود معسكر المعارضة والممانعة وفي كثير من الاحيان كانت تقف وحيدة في هذا الموقف. بالرغم من كل مآخذنا على النظام السوري على كافة الاصعدة: الداخلية والخارجية، المحلية والدولية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومعرفتنا بأن معارضتها لهيمنة الامبريالية هي نسبية وممانعتها مشروطة، إلا أنه عندما نجول بنظرنا على البلدان المجاورة المنبطحة امام الحلف الامريكي- الاسرائيلي كنا نعود ونقول: ما لنا غير سوريا.
على ضوء الاحداث الاخيرة التي عصفت بسوريا وحسب الرياح السياسية التي تهب من هناك، هل ما زال بمقدورنا أن نقول ذلك؟ كيف تنسجم هذه الاحداث مع نهج المقاومة والممانعة؟
ما هي هذه الاحداث المريبة التي اتكلم عنها والتي تهدد بتقويض الموقف السوري الممانع وجره الى التيار العربي المعتدل حسب التعريف الامريكي الاسرائيلي؟
أولا):
قبل حوالي سنة قامت طائرات اسرائلية بقصف وتدمير موقع سوري زعمت انه مفاعل نووي بينما أكدت سوريا انه موقع عسكري قديم ومهجور. وبغض النظر عن صحة الادعاء الاسرائيلي او الادعاء السوري فإن هذه الحادثة تبقى عملا عدوانيا على دولة ذات سيادة. فمن الذي أعطى الحق لإسرائيل أن تهاجم مفاعلا نوويا في دولة اخرى؟ وإذا كان لإسرائيل الحق في ذلك أليس من حق الدول العربية قصف وتدمير المفاعل النووية في ديمونا؟ والتي تشكل خطرا وجوديا على كافة الدول العربية. الرد السوري على هذا العدوان الغاشم لم يتجاوز التنديد. واكتفت السلطات السورية بالقول:" تحتفظ سوريا بحقها بالرد على هذا العدوان في الوقت المناسب وبالشكل المناسب"
ثانيا):
بينما كانت الجماهير العربية تنتظر الرد السوري على هذا العدوان بفارغ الصبر تفاجأنا بالمفاوضات غير المباشرة بين سوريا اسرائيل بوساطة تركية ومباركة امريكية وعربية رجعية. هذه المفاوضات التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، وكما صرح مسؤولون سوريون ستتحول الى مفاوضات مباشرة بعد الانتخابات الامريكية (هذا إذا لم تشوش الانتخابات الاسرائيلية التي لم تكن بالحسبان حساباتهم). لقد برر البعض هذه المفاوضات بضرورة رفع الضغط التي تتعرض له سوريا من جراء التهديدات الامريكية بسبب تورطها في لبنان وبسبب علاقاتها المميزة مع حزب الله وايران. غير أن أمريكا واسرائيل كعادتهما تطالبان الطرف الآخر بالدفع نقدا وفورا بينما هما تدفعان بالوعود طويلة الامد التي تتبخر مع الزمن.
ثالثا:
أستحقاقا للمفاوضات مع اسرائيل والغزل المكشوف مع الولايات المتحدة الامريكية قام الرئيس السوري بزيارة بغداد في ظل الاحتلال الامريكي، وأعلن عن إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة العميلة التي يرأسها نوري المالكي، وهذا لا يعني أقل من منح الشرعية لإحتلال دولة عربية. وبذلك تفوق حتى على بعض الانظمة "المعتدلة" التي لم تجرؤ حتى الآن على إتخاذ مثل هذه الخطوة علنا وبشكل رسمي خوفا من جماهير شعوبها.
رابعا:
بعد الزيارة التاريخية للرئيس اللبناني ميشال سليمان الى العاصمة السورية وفي اعقاب القمة السورية اللبنانية أعلن الطرفان عن "دفع العلاقات التاريخية بين سوريا ولبنان الى الامام". في أعقاب هذه القمة أصدر الرئيس الاسد مرسوما رئاسيا يقضي بإنشاء علاقات دبلوماسية مع لبنان وفتح سفارة سورية في العاصمة اللبنانية. لا أدري إن كان الرئيس السوري يدري انه بمرسومه هذا قد منح الشرعية بعد أكثر من تسعين عاما على حظائر سايكس – بيكو التي مزقت العالم العربي الى دويلات تدور في فلك الامبريالية العالمية، ولكنه من غير شك يدري أن مرسومه هذا يتناقض مع شعار حزب البعث الحاكم الذي يتشدق به منذ استلامه للسلطة:" أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة".
هذه التراجعات الخطيرة عن الخط الوطني والقومي لم تكن كافية لتأمين الحماية للنظام السوري. فقد قامت الطائرات الامريكية التي تحتل العراق بمهاجمة الاراضي السورية وقتلت بعض المدنيين بعد أن دمرت بيوتهم. وعادت السلطات السورية بتكرار موقفها الكلاسيكي الراسخ:" سوريا تحتفظ بحقها بالرد على هذا العدوان" وانهمرت التنديدات من كل صوب. فهذه جمهورية مصر العربية تعرب عن "اسفها" لوقوع ضحايا مدنيين. وهذه دولة قطر التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة تندد بهذه العملية العدوانية. ولعل عمرو موسى الامين العام لجامعة الدول العربية عبر عن إفلاس العالم العربي المطلق من خلال تصريحه المندد بهذا العدوان. حتى أن بعض الاقلام المأجورة بدأت تختلق التبريرات لهذا العدوان وتدعو العرب بعدم الرد على هذا "الاستفزاز" الامريكي الذي يهدف الى استدراج سوريا للرد مما يسوغ توسيع العدوان.
نحن لا نطالب الانظمة العربية بشن الحرب على الولايات المتحدة الامريكية، ولكن حفظا لماء وجهها تستطيع أن تتخذ خطوة عملية واحدة مثلا دعوة سفرائها للتشاور؟ التهديد بسحب الاموال العربية التي تذهب هباء في ظل الازمة المالية التي تعصف بالنظام الراسمالي العالمي، أو حتى أضعف الايمان الدعوة الى مؤتمر قمة عربي أو إجتماع لرؤساء الخارجية العرب. لا شيء. الشلل كامل وشامل.
الدفاع عن سوريا اليوم هو دفاع عن الامة العربية بأسرها، عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وهذا ليس مهمة النظام السوري أو الانظمة العربية الاخرى. انها مهمة الشعوب العربية وقواها الطلائعية. يجب أن تتكاتف الجهود من أجل إعادة الشرطي الامريكي المجرم الى بلاده وراء المحيط.