من حق الشعوب أن تحلم بالحرية والاسقلال. ومن حقها، لا بل من واجبها أن تناضل من أجل تحقيق هذا الحلم. ومن واجب قيادة هذه الشعوب أن تقود هذا النضال حتى يتحول الحلم الى حقيقة. ولكن عندما يصبح الحلم كابوسا، عندما يصبح وهما وسرابا، عندما يصبح كذبة كبرى عندئذ على الشعوب أن تستيقظ من هذا الكابوس وتنبذ ذاك الوهم وتفضح تلك الكذبة وتحاسب قياداتها التي أوصلتها الى هذا الوضع المزري.
هذه هي حالتنا مع " إعلان استقلال دولة فلسطين" الذي مر عليه قرابة العشرين عاما. لا دولة، لا استقلال ولا يحزنون. بل هو وبكل بساطة: إستهبال. يطالبوننا بإن نحتفل بهذه الكذبة كل سنة وأن نفرح ونغني ونرقص. قد يقول البعض إن اعلان الاستقلال كان خطوة رمزية على إعتبار ما سيكون وليس على اعتبار ما كان أو ما هو كائن، خصوصا وأنه اتخذ من قبل أعلى مؤسسة في منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" وهو المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة نوفمبر 1988 في الجزائر. من يروج مثل هذه التبريرات يراهن على ضعف ذاكرة الجماهيرمن جهة وقوة الجهاز الدعائي الديماغوغي للقيادة الفاسدة والعاجزة من جهة أخرى.
كيف ظهر هذا الاستقلال المزعوم الى النور عام 1988 وما هي الظروف السياسية الفلسطينية والعربية والدولية التي كانت سائدة في ذلك الوقت؟، والاهم من ذلك كله، ماذا كان الهدف الحقيقي من الاعلان عنه؟.
التسويات التصفوية التي تفرط بالحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني في وطنه وعلى أرضه قديمة قدم القضية نفسها. ولم تبدأ في أوسلو ولن تنتهي في أنابوليس. وإنخراط فئات متنفذة في قيادة الشعب الفلسطيني وتعاطيها مع هذه التسويات هو الآخر ليس جديدا. فقد سبق الاعلان عن "وثيقة الاستقلال" فترة طويلة من التحضير لقبول تسوية من هذا النوع. العلامة الفارقة في هذه المسيرة التصفوية الطويلة كان تبني ما يسمى البرنامج المرحلي ألذي اتخذه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة عام 1974 وطرح ما يسمى "السلطة الوطنية" والذي في خطوطه العريضة ينبذ حلم تحرير فلسطين ويكتفي بإقامة سلطة على أي بقعة ينسحب عنها جيش الاحتلال الاسرائيلي. وعمليا جاء هذا البرنامج تحضيرا للأنخراط بالمفاوضات التي بدأت بين إسرائيل والدول العربية في جنيف. غير أن الطرف الفلسطيني عاد بخفي حنين ولن تفيده التنازالات التي قدمها فتيلا، ولم يحظ حتى بتلق دعوة لحضور هذه المفاوضات التي تمخضت بعد عدة سنوات عن إتفاقيات كامب ديفيد بين النظام الساداتي وإسرائيل.
لم تكن التنازلات التي قدمها الجانب الفلسطيني كافية لكي ترضي إسرائيل وحلفائها الامريكيين والاسرائليين وطالبوا بالمزيد من هذه التنازلات. التي سرعان ما جاءت على شكل حملة " سلام" فلسطينية في نهاية السبعينات والثمانينات. هل ما زال أحد يذكر تحركات عصام السرطاوي وسعيد حمامي وعزالدين قلق وغيرهم من ممثلي المنظمة الذين قادوا هذه الحملة في أوروبا؟ في المقابل كان الرد الاسرائيلي، بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد وتحييد مصر عن الصراع، إجتياح لبنان عام 1978 وإحتلال بيروت وطرد المنظمات الفلسطينية منها عام 1982. من كان يظن أن الممارسات الاسرائيلية سوف تعيد قيادات هذه التنظيمات الى طريق النضال خاب أمله، ما حدث كان عكس ذلك تماما. فقد تسارعت وتيرة التنازلات عن الثوابت الوطنية.
في هذه الاثناء وصل السيل عند الشعب الفلسطيني الزبى وفجر إنتفاضته الشعبية والتي كانت تسير بخطى واثقة ومتسارعة على طريق التمرد المدني والسياسي، الامر الذي أربك ليس إسرائيل وحلفاءها فحسب، بل القيادة الفلسطينية المتنفذة أيضا، التي خافت أن تخرج الامور عن هيمنتها. وكان من الضروري التحرك بسرعة للجم الانتفاضة وترويضها. ويا لسخرية الاقدار فقد دعيت الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر نوفمبر 1988 بدورة الانتفاضة التي مر على انطلاقتها حوالي سنة، وأرادت القيادة أن تقطف ثمار الانتفاضة مبكرا، فجاء الاعلان عن استقلال الدولة الفلسطينية، لكي ترضي جماهير الانتفاضة من جهة ولكنها كانت لذر الرماد في العيون من جهة أخرى، لأن وراء الاكمة كان ما وراءها، والدوافع الحقيقية لهذا الاعلان كان التستر عن المفاوضات التي قطعت مرحلة لا بأس بها بين قيادة المنظمة والادارة الامريكية. فبعد أقل من شهر دعي ياسر عرفات لإلقاء خطاب امام مؤتمر نظمته الامم المتحدة في جنيف وهناك لأول مرة وبشكل رسمي وعلني أعلن ابو عمار بأن الشعب الفلسطيني يقبل بقرار 242 و 338 ويدين كافة أشكال الارهاب. وكان ذلك ما تريده الادارة الامريكية برئاسة رونالد ريغان لكي تبدأ بحاور مباشر مع منظمة التحرير. وهكذا قضينا على الانتفاضة الشعبية الاولى من خلال إحتضانها، وكانت إتفاقيات أوسلو القبلة المميتة.
كاتب وثيقة "الاستقلال" وضع أمامه وثيقة "إستقلال" أخرى هي وثيقة الاستقلال الاسرائلية. وأخذ ينقل عنها وكأنه طالب يغش بالامتحان. الاسلوب نفسه، الافكار نفسها، وحتى بعض الجمل نفسها. تقمص هذا الكاتب الذي من المفروض أن يمثل الشعب الضحية شخصية المستوطن الصهيوني. ركزت الوثيقة على الروابط العاطفية التي تربط الشعب الفلسطيني بوطنه، ركزت على دولة وهمية وتجاهلت المقاومة التي كانت في أوجها. مرت بحق العودة مرور الكرام، كرست الاعتراف بدولة إسرائيل وأعتبرت قرار التقسيم مرجعية بالرغم من إجحافه.
سامحوني، أنا شخصيا لن أحتفل بمثل هذا الاستقلال المزيف. الاستقلال النابع من صلب النضال، الاستقلال الذي يتوج مسيرة التحرير المظفرة هو الوحيد الذي يستحق الاحتفال به.
No comments:
Post a Comment