ربما للمرة الاولى في تاريخها تعلن إسرائيل تصريحا حقيقيا عندما قامت الحكومة الاسرائيلية بالاجماع بناء على طلب وزير الحربية ايهود براك بالاعلان عن قطاع غزة "كيان معادٍ". وبذلك أكون أول من يسبح ضد التيار ويبارك للحكومة الاسرائيلية على صراحتها وجرأتها هذه، على عكس قيادتنا المحلية التي سارعت بإدانة هذا التصريح وأعتبرته بمثابة إعلان حرب على غزة (وكأن غزة قبل هذا التصريح كانت تنعم بالسلام والامن) وأعتبرته تخريبا للمؤتمر الدولي المزمع عقده في الخريف في أمريكا، وكأن هذا المؤتمر سوف يجلب السلام المنشود.
لقد اعاد هذا التصريح ترتيب الامور في وضعها الطبيعي بعد أن إختلطت الاوراق واصبحنا لا نعرف العدو من الصديق ولا الضحية من المجرم. جاء هذا التصريح ليضع النقاط على الحروف: غزة كيان معادٍ تماما كما أن إسرائيل كيان معادٍ. هذه هي الصورة كاملة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي طبيعة العداء بين هذين "الكيانين"؟
بالنسبة لغزة الجواب واضح، فالعداء ليس جديدا ويعود الى عام 1948 وما قبله لأن الكيان الاسرائلي هو المسؤول عن تهجير 80% من سكان غزة من بيوتهم، هو الذي نهب ارضهم ودمر قراهم، ولم يكتف بذلك بل عاد وأحتل أماكن لجوئهم وأذاقهم الامرين من قمع وحصار وقتل الخ.
بالنسبة لإسرائيل غزة كيان معادٍ لانها ترفض أن تستلم، لانها تقاوم الاحتلال بكل ما تملكه من قوة متواضع وبالرغم من التضحيات الجسيمة التي قدمتها وما زالت تقدمها، لأنها تتمسك بحقها بالعودة والحرية.
ولكننا نعيش في عصر اللامعقول حيث تتحول الاشياء الى أضدادها بقوة سيطرة الجيش والمال والاعلام. حتى أصبح دفاع أهل غزة عن حقوقهم الانسانية الاساسية في الحياة والمسكن والامن عدوانا بينما اصبح العدوان الاسرائيلي دفاعا عن النفس.
لقد وصف الشعب الفلسطيني إسرائيل منذ اللحظة الاولى بالكيان العدواني وكان هذا الوصف يعكس الواقع كما يحسه الفلسطيني على جسده. كما يعيشه يوميا، كما يتنفسه كل صباح وقد حاولت اسرائيل إختراق هذا التعريف على كافة الاصعدة، وللحق يقال انها حققت إنجازات كبيرة في هذا المجال. جاء الاختراق الاول الكبير في أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد وتحييد أكبر دولة عربية، وهي مصر، عن الصراع. ومن ثم تلتها اتفاقيات وادي عربة التي فتحت أبواب الاردن على مصراعيه لتغلغل الهيمنة الاسرائيلية وأخيرا إتفاقيات اوسلو التي ما زلنا نعاني من عواقبها الوخيمة. جاءت غزة لتعيد الامور الى نصابها الحقيقي ولتؤكد حقيقة تاريخية: ان العداء بين المستمعر المحتل وبين الشعب الرازح تحت نير الاحتلال هوعداء مطلق.
في الحقيقة لم يأت التصريح الاسرائيلي بشيء جديد. فمن يقرأه يظن للوهلة الاولى وكأن غزة قبل هذا الاعلان كانت "كيانا صديقا" تنعم بالعلاقات الحميمة وحسن الجوار. ما الجديد الذي قد يجلبه هذا القرار الى غزة؟ تشديد الحصار؟ ولكن غزة محاصرة منذ سنوات وكلما ازداد الحصار كلما إصلب الصمود. فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية؟ وقطع الكهرباء؟ وكأنه لم تكن هناك عقوبات حتى الان. أم تصعيد الاجتياحات والاغتيالات والقصف؟ وكل ذلك تمارسه اسرائيل بكل طاقتها منذ سنوات فماذا كانت النتيجة؟.
ولكن، حسب رأيي، يوجد هناك نوايا أخرى خبيثة وأخطر بما لا يقاس من وراء هذا التصريح الاسرائيلي وفي هذه الفترة بالذات، هذه النوايا يجب فضحها ومواجهة مخاطرها. لقد جاء التصريح الاسرائيلي ليقول للشعب الفلسطيني لمقاوم من حيث الاساس: غزة هو كيان معادٍ ينبغي القضاء عليه اما الضفة الغربية فهي كيان صديق وسوف تنعم بالازدهار والرفاهية. من يقاوم الاحتلال الاسرائيلي فهو ارهابي وعدو ولكن من يتقبل الاحتلال ويتعاون معه فهو صديق.
دعونا نلقي نظرة خاطفة لكي نرى كيف تتعامل إشرائيل مع "الكيان الصديق": الاستيطان يتمدد كالاخطبوط في كافة ارجاء الضفة الغربية ولم يتوقف حتى للحظة واحدة، تهويد القدس يجري على قدم وساق وفي كل يوم يهدم بيت وتصادر أراضي وتبنى مستوطنات، جدار الفصل العنصري ينهش في اراضي الضفة من شمالها الى جنوبها، هذا بالاضافة الى الحواجز التي تقطع اوصال الضفة والاجتياحات المتكررة في نابلس ورام الله وباقي المدن والقرى والاغتيالات والاعتقالات. هكذا تكون الصداقة لا عمرها ما تكون.
المصيبة الكبرى أن السلطة الفلسطينية تنسجم أكثر فأكثر مع هذه السياسة الخبيثة. على غرار حكومة أولمرت – براك، حكومة عباس-فياض هي الاخرى تعتبر غزة " كيانا معاديا" ولا يغرنا التصريحات التي يطلقها بعض المسؤولين في السلطة تدين التصريح الاسرائيلي. لقد أصبح واضحا لجميع المراقبين أن هناك ثمة تنسيق إسرائيلي – امريكي – فلسطيني سلطوي لتضييق الخناق على غزة حتى تركيعها. وهناك أيضا تواطؤ عربي أوروبي لدعم هذه السياسة.
ولكن لا يوجد لدى الغزاويين ما يخسروه سوى أغلالهم وأمامهم الوطن ليكسبوه