عرف الشعب طريقه
مع الاحترام للشاعر كامل الشناوي والملحن محمد عبد الوهاب)
في سنوات السبعين والثمانين من القرن الماضي بشرتنا القيادة السوفيتية (للمرة الالف) أن الاتحاد السوفياتي، الدولة العمالية الاشتراكية الأولى في العالم قد أنجزت المرحلة الاولى من الثورة (الاشتراكية) وها هي تدخل بخطوات راسخة لتحقيق المرحلة الثانية الارقى ألا وهي مرحلة الشيوعية. لمن يشعر ببعده عن هذه المصطلحات والنظريات أذكر بأن المرحلة الاشتراكية التي انبثقت من رحم الراسمالية تكون متخمة بعناصر راسمالية عديدة من غير الممكن التخلص منها فورا، كالفوارق بين المدينة والقرية، بين العمل الفكري والعمل الجسدي، مثل الفوارق في الأجور وغيرها من الامور ذات البعد التاريخي. لذلك اتفقوا على أن شعار مرحلة الاشتراكية هو: "من كل واحد حسب مقدرته ولكل واحد حسب عمله".
أما في مرحلة الشيوعية حيث تختفي كافة الفوارق المادية والروحية بين المواطنين وتزول كافة مظاهر الاستغلال والقمع والاضطهاد وتسود الحرية والعدالة الاجتماعية والسلام، يتحول الشعار إلى: من كل واحد حسب مقدرته ولكل واحد حسب حاجته. إلا أن الواقع كان على العكس من ذلك تماما. فالبلاد كانت تمر بأزمة اقتصادية خانقة والاشتراكية المزعومة لم تكن أكثر من رأسمالية الدولة، أما دولة العمال فقد تحولت إلى دولة البيروقراطيين الحزبيين، وكانت الحرية بأبسط اشكالها تداس تحت أقدام الكي. جي. بي. وتقبع في زنازين سيبيريا.
كذبة إنجاز المرحلة الاشتراكية والارتقاء للمرحلة الشيوعية كانت أكبر من أن يتم إخفائها. وكان المعسكر الرأسمالي الآخر بزعامة أمريكا ومعها الدول الاوروبية المتطورة يعرف كافة التفاصيل. ولم يكتف بهذه التفاصيل بل زاد عليها وبالغ فيها بكل شيء. سميت هذه الفترة بالحرب الباردة: باردة بالنسبة للمعسكرين الرأسماليين ولكنها كانت ساخنة بالنسبة للدول الفقيرة والنامية. حيث عمت الحروب بالوكالة كافة أرجاء العالم لتصفية الحسابات بين المعسكرين المتناحرين على أراضي الغير كما يحدث اليوم تماما.
كانت أبواق النظام السوفياتي تدمغ كل ما يقال بدعايات وأكاذيب وافتراءات غربية مغرضة، وفي الوقت كانت الأبواق التي تدور في فلكه تتهم كل من يوجه النقد للاتحاد السوفياتي بالعمالة للغرب والامبريالية، حتى التنظيمات والحركات التي كانت تناضل من أجل مجتمع اشتراكي حقيقي لم تنج من هذه الاتهامات.
وبعد أقل من عقد، وخلال شهور معدودة انهارت الامبراطورية انهيارا مدويا صدم الاصدقاء قبل الاعداء. وتبين أن كل ما قيل لم يكن دعايات امبريالية، أو أن هذه الدعايات كانت صادقة بنسبة كبيرة.
لا تهدف هذه المقدمة الطويلة الخوض في التجربة السوفياتية واسباب فشلها، فهذا موضوع قائم بذاته وقد تناوله الكثيرون بالدراسات والتحليلات. ما يهمني هنا الوضع الراهن في منطقتنا والذي يشبه في الكثير من جوانبه ما حدث حينذاك. فكل تحرك شعبي تقوم به الشعوب العربية ضد أنظمتها الدموية والفاسدة يتم رفضه مباشرة على اعتبار أنه دعاية امبريالية مغرضة أو مؤامرة كونية ضد نظام عربي، وطني ومقاوم، ويدمغ كل من يشارك في هذه الحركات الاحتجاجية مهما كانت بسيطة بالعمالة لهذه القوى الامبريالية. هذا بالرغم من أن الانظمة التي تشتم الامبريالية الآن صباحا ومساء هي التي تخدم النظام الامبريالي العالمي وتعيده الى بلادها بعد أن غادرها. الغاية الوحيدة لهذه الانظمة هي الحفاظ على حكمها ومن أجل ذلك فهي مستعدة لأن تلبس أي قناع (ديمقراطي، وطني، محارب للفساد، معاد الامبريالية) ومستعدة أن تنزعه كما لبسته بكل بساطة وسهولة. ومن الجهة الاخرى غاية الدول الامبريالية الحفاظ مصالحها ومن أجل ذلك هي الاخرى مستعدة لأن تلبس اي قناع (الحرص على الديمقراطية، الدفاع عن حقوق الإنسان، تقديم المساعدات "الإنسانية"). وعند الضرورة تخلع هذه الاقنعة الواحد تلو الآخر حتى يبين وجهها الحقيقي البشع وتمطر الشعوب بأسلحتها الفتاكة.
على الشعوب التي تناضل من أجل الحرية والاستقلال والحياة الكريمة أن تسير على الدرب الذي يمليه عليها ضميرها ولا تستمع لما يقوله هذا أو ذاك ولا تلتفت يمينا أو شمالا، فالشعب يعرف طريقه جيدا بالرغم من كل المتكالبين.
No comments:
Post a Comment