الثورات هي التي تغير مجرى التاريخ
اغتيال قاسم سليماني في بغداد والرد الإيراني هيمنا على أخبار الأسبوع الأخير وقد طفحت وسائل التواصل الاجتماعي (بالاضافة لوسائل الاعلام العادية الاخرى) بالتحليلات والتعقيبات حتى وصل الاستقطاب الموجود أصلا إلى اقصى مداه. في هذا الأسبوع بالذات كانت صلتي بالانترنت محدودة نظرا لتواجدي خآرج البلاد في زيارة خاصة وانشغالي بأمور أخرى. ولكني بالطبع تابعت تطور الاحداث بقدر ما اتاحته لي الظروف. حتى ظن البعض ممن يعرفون مواقفي الثابتة حول ما يدور في منطقتنا بأني قد غيرت مواقفي جذريا بعد هذين الحدثين خصوصا الموقف من النظام الايراني ومن الصراع الامريكي - الايراني في المنطقة، حتى تساءل أن بعض الأشخاص الذين يطفون على شبر من الماء إذا ما كنت قد بلعت لساني وآثرت الصمت. اليوم وبعد أن عدت إلى ممارسة حياتي الطبيعية كان لا بد من تسجيل النقاط الاولية التالية:
1- كنت وما زلت أرفض التدخلات الاجنبية العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية في منطقتنا بكافة أشكالها ومضامينها. هذا على الصعيد النظري مع علمي أن الموقف المبدئي لا يكفي لمنع هذه التدخلات.
2- كنت أتمنى أن تقوم الشعوب من خلال نضالها التحرري بمحاكمة قياداتها التي اقترفت الجرائم بحقها ولا تدعها لمجرم آخر (الامريكي في حالتنا هذه) وقد عبرت عن هذا الموقف في عدة مناسبات مثل إغتيال اسامة بن لادن والبغدادي ومؤخرا قاسم سليماني. الشعوب هي صاحبة الحق بملاحقة ومحاكمة هؤلاء قضائيا أو/ وميدانيا. في ظل الاستقطاب المذكور كانت المواقف متفاوتة فمنهم من أيد ومنهم من عارض حسب مواقفه المعلنة من الصراع العام.
3- أغتيل قاسم سليماني في بغداد قادما من بيروت ومن دمشق فهو يمثل اليد العسكرية لنظام الملالي . في هذه الاماكن يعيث التدخل الاجنبي (الايراني أحدها) فسادا بالتوافق مع باقي الأطراف أحيانا والصراع فيما بينها أحيانا أخرى. قاسم سليماني ومن خلفه النظام الايراني لم يكن بمعزل عن هذه التحالفات والصراعات ومن ضمنها مع الجانب الأمريكي. يجب الا ننسى انه على بعد كيلومترات قليلة من إغتيال سليماني (مطار بغداد) يوجد قاعدة عسكرية امريكية متطورة أقيمت بدعوة وموافقة الحكومة العراقية وحلفائها في طهران وربما كانت هذه القاعدة اليد المباشرة في الاغتيال. أنصار محور ما يسمى المقاومة يهاجمون بحق دول المنطقة التي تحتضن قواعد عسكرية أمريكية مثل قطر، الامارات والسعودية ولكنهم يخرسون ويغضون الطرف عن قواعدها في العراق. بعض النشطاء السياسيين "القوميين والوطنيين" تخونهم ذاكرتهم وينسون أن حكام بغداد الحاليين قد وصلوا للسلطة على ظهور الدبابات الامريكية وبمباركة ايرانية. الاحتلال الأمريكي للعراق مستمر بدون انقطاع منذ عام 2003. وفي السنوات الاخيرة أصبح احتلالا مشتركا امريكيا- ايرانيا. أنا لست ممن يقولون بأن الصراع الأمريكي الايراني هو مسرحية، على العكس من ذلك بل هو صراع وحشي وشرس هدفه الاستفراد بالفريسة والتهامها (في حالتنا هذه العراق). ولكن يتخلل هذا الصراع الشرس اتفاقيات، تفاهمات وتحالفات باشكال مختلفة.
4- قد تكون اليد المباشرة التي طالت سليماني أمريكية ومدعومة اسرائيليا ولكن من السذاجة حصرها في هذا الإطار فقط. هل يمكن استبعاد الدور الروسي بعد أن خرجت الخلافات الروسية - الايرانية إلى العلن في سوريا؟ وهل يمكن استبعاد أجنحة داخل النظام الاسدي بين مؤيدة لإيران ومؤيدة لروسيا؟ بل هي يمكن استبعاد الصراع داخل اروقة النظام الايراني ذاته؟ راجعوا مواقفكم على ضوء من المستفيد من اغتيال سليماني وسوف تفاجئون انفسكم.
5- وأخيرا، الرد الايراني. من يعتنق شعار: "الموت لامريكا، الموت لاسرائيل" سوف يخجل من هذا الرد فما بالكم بالمعارضين؟ قامت أبواق المؤيدين لنظام الملالي بتزييف التاريخ لكيل المدائح على هذا الرد الهزيل حتى ادعت بعضها أن استهداف القاعدة الامريكية هو الأول من نوعه بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر والذي كان سببا مباشرا لدخول أمريكا الحرب العالمية الثانية، متجاهلين الحرب في كوريا في بداية الخمسينات والتي كبدت الجيش الأمريكي خسائر فادحة متجاهلين الحرب الفيتنامية التي استمرت لأكثر من عقد وكبدت الجيش الامريكي عشرات آلاف القتلى، هذا بالاضافة للحرب في لاوس وكمبوديا وحتى افغانستان الفقيرة.
يبدو أن ترامب كان صادقا عندما قال: " لم تنتصر إيران في أية حرب شنتها ولكنها لم تخسر أية مفاوضات". أغلب الظن أن إغتيال سليماني سيكون ورقة في يد النظام الإيراني للمساومة في مفاوضات مستقبلية وليس لتصعيد الصراع العسكري معها. هنا في فلسطين نلمس هذه السياسة منذ زمن طويل، فبعد كل عدوان تشنه اسرائيل على غزة أو تقوم بإغتيال أحد قادة الفصائل تعلن عن رغبتها بعدم التصعيد العسكري واستعدادها للتوصل الى هدنة طويلة واتفاقيات سياسية. راجعوا التصريحات الاسرائيلية منذ اغتيال احمد ياسين والرنتيسي مرورا بسعيد صيام والجعبري وحتى بهاء ابو العطا. فكل هدنة طويلة كانت أم قصيرة، بواسطة المخابرات المصرية وأطراف أخرى، كانت تأتي بعد عدوان أو عملية إغتيال وكان الطرف المعتدى عليه يلبسها قناعا بالرد ببعض الصواريخ الكرتونية وذلك للاستهلاك المحلي. فهل تعلمت أيران في ردها على اغتيال سليماني من حركة حماس والجهاد؟ لا تستغربوا أن تكون خاتمة اغتيال سليماني بداية انفراج سياسي بين ايران وامريكا ومن خلفها إسرائيل وبمشاركة أطراف أخرى.
لقد أصبحت البلدان العربية مسرحا للحرب بالوكالة بين القوى العالمية أو الاقليمية ومرتعا لتصفية حسابات هذه القوى على حساب الشعوب العربية. بالرغم من موقفي الرافض للحروب الامبريالية الرجعية ولكن إذا اصرت الدول الامبريالية والرجعية على شن حروبها فلتفعل ذلك على أراضيها. إذا أرادت إيران أن تلعب دور البطولة فالاسطول الخامس الامريكي أقرب إليها من بغداد.
وفي جميع الأحوال ينبغي على الشعوب المضطهدة أن تحول الحروب الامبريالية والرجعية إلى حروب تحررية.