Thursday, January 11, 2018

هل ما زالت الثورات ممكنة؟

هل ما زالت الثورات ممكنة؟
علي زبيدات - سخنين

الثورة الشعبية الاخيرة التي تفجرت في منطقتنا (قبل ثورات الربيع العربي) هي الثورة الايرانية عام 1979. قد يقول البعض أن ثورات الربيع العربي قد فشلت جميعها أو انها لم تكن ثورات اصلا بل مؤامرة امبريالية - صهيونية لتقسيم العالم العربي وفرض الهيمنة عليه. وكأن العالم العربي قبل هذه الثورات كان موحدا ومستقلا. بالرغم من ذلك، لا يخلو قول هؤلاء من شيء من الصحة: بمعنى أن كل الثورات التي عرفها التاريخ البشري قد آلت إلى الفشل. ألم تنتهي الثورة الفرنسية الكبرى بامبراطورية نابليون التي ابتعدت عن مبادئ الثورة ومن ثم إلى عودة الملكية؟ وهكذا كان مصير ثورة 1830 و 1848 وكومونة باريس عام 1870 وكذلك الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي 1917 وسقوطها النهائي عام 1991 وغيرها من الثورات. ولكن هذا جانب واحد من الحقيقة فحسب وهو في أغلب الاحيان الجانب الاقل اهمية، فقبل فشل هذه الثورات أو على الاصح بالرغم من فشلها فيما بعد فقد استطاعت أن تحدث تغييرا جذريا جعل العودة إلى الماضي مستحيلة. ومهما حاولت الثورات المضادة أو الانظمة التي لم تسقطها الثورات العودة إلى الوراء إلا أنها عجزت عن تحقيق ذلك ووجدت نفسها مرغمة على تحقيق ولو جزء بسيط من برنامج الثورة.
لنعود إلى الثورة الايرانية، وأنا هنا لست بصدد سرد اسباب الثورة ونتائجها وعرض سلبياتها وايجابياتها. بل للتأكيد على أن نجاحها باسقاط نظام الشاه الفاسد قد انتهى بالفعل الى فشلها كما نعيشه في هذه الايام. اذكر انه عند اندلاع الثورة (حوالي سنة ونصف قبل سقوط نظام الشاه) كنت اسيرا سياسيا في سجن الرملة المركزي الذي ضم في ذلك الوقت نخبة من الاسرى السياسيين المنتمين لمختلف التنظيمات الفلسطينية. وبالرغم من شح المصادر في ذلك الوقت، الذي اعتمد بشكل رئيسي على معلومات من نشرات الاخبار الاسرائيلية (الوحيدة المسموح بها) وبعض الجرائد الاسرائيلية الا أن جميع الاسرى كانوا متابعين لتطور احداث الثورة المتسارعة في ايران. وهذا الامر انعكس بقوة على الحوارات والنقاشات داخل التنظيمات وفيما بينها. بالطبع، أيد الجميع الثورة لاسقاط نظام الشاه بدون أي تحفظ. وذلك انسجاما مع مواقف التنظيمات الفلسطينية في الخارج وخصوصا القومية واليسارية ( لم تكن هناك تنظيمات إسلامية بعد، ولكن مع وجود تيار متدين داخل حركة فتح متاثرا بفكر الاخوان المسلمين). كنت من بين الاسرى القلائل غير الملتزمين تنظيميا لاحد الفصائل، مما حررني من القبول بالمواقف الجاهزة الصادرة عن التنظيمات والتي كان على باقي الاسرى الالتزام بها. كنا في ذلك الوقت نناقش مبدأ الوحدة الوطنية في مرحلة التحرر الوطني وكنت أؤمن أن الوحدة الوطنية يجب ألا تنفي ضرورة قيادة الطبقة العاملة بواسطة تنظيمها الطليعي لهذه المرحلة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت تؤمن إلى حد ما بهذا المبدأ ولكن نظريا فقط). لأن ما اصطلحنا على تسميتها بالبرجوازية الوطنية غير قادرة على قيادة النضال الوطنى حتى النهاية، حتى التحرير والعودة. خصوصا بعد تبني البرنامج المرحلي والتحول الذي بدأ تدريجيا واصبح استراتيجيا نحو السعي وراء تسوية سلمية بكل ما تحمله من تنازلات وانحرافات. كان موقفي من الثورة الايرانية الذي لم يجد آذان صاغية انه يجب الوحدة الميدانية لاسقاط الشاه ولكن يجب عدم القبول بسيطرة الملالي السياسية على الثورة. سقط الشاه وغادر ايران بعد أن عين أحد رجال المعارضة وهو شابور بختيار رئيسا للحكومة كمحاولة أخيرة لانقاذ النظام الملكي (خطوة تذكرنا بتعيين عمر سليمان بعد استقالة حسني مبارك). في تلك المرحلة كان من الممكن ومن الضروري فرز القوى الثورية الجذرية التي لا تكتفي باسقاط النظام بل تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية واقامة نظام تقدمي، ديمقراطي عن القوى التي تكتفي باسقاط النظام لتحل محله وتقيم نظاما استبداديا لا يختلف عن النظام البائد الا بالشكل. وهذا بالضبط ما حصل، فبعد هيمنة الملالي الاصوليين مباشرة بدأ سحق ليس التنظيمات اليسارية مثل حزب تودة الشيوعي ومجاهدي خلق فحسب بل العديد من رجال الدين الوطنيين والليبراليين أيضا. وهكذا وخلال سنة تم استبدال النظام الملكي بنظام ولاية الفقيه والسافاك بالحرس الثوري. ولم يبق من الثورة سوى الشعارات المعادية لامريكا والتي استخدمت بفعالية لترسيخ أسس النظام الجديد.
بعد عام (1980) نشبت الحرب العراقية الايرانية. مرة أخرى، لست بصدد سرد اسباب ومجريات هذه الحرب إذ أن المعلومات عن هذه الحرب في متناول الجميع. ما يهمني هنا هو مواقف التنظيمات الفلسطينية كما انعكست على الاسرى السياسيين. هنا حصل بعض التغيير، فبعض التنظيمات القومية (مثل جبهة التحرير العربية التابعة لحزب البعث العراقي) والتيار الرئيسي في حركة فتح (المتذبذب في الخارج) وبعض الاسلاميين المستقلين ايدوا صدام حسين بحجة أنه حامي البوابة الشرقية للعالم العربي في وجه التمدد الفارسي. بينما مالت التنظيمات اليسارية وبعض التنظيمات القومية المقربة من نظام البعث السوري إلى تأييد النظام الايراني بحجة معاداته للامبريالية والصهيونية. اذكر أن الرفيق يوآب بار الذي كان يزورني في السجن قد طلب مني كتابة مقالة أحدد بها موقفي من الحرب العراقية - الايرانيه لينشره في مجلة يسارية محلية. كتبت المقالة المطلوبة وكان موقفي واضحا وبسيطا ويمكن تلخيصه فيما يلي: الحرب رجعية من كلا الطرفين. ويجب عدم تأييد طرف ضد الطرف الآخر. نظام ولاية الفقيه لا يقل رجعية عن نظام البعث الاستبدادي في العراق المتحالف مع امريكا والسعودية. في هذه الحرب الضحية الوحيدة هو الشعب الايراني والشعب العراقي. وأن الموقف الثوري الوحيد في هذه الحرب هو دعوة الجنود العراقيين والايرانيين لتوجيه بنادقهم إلى صدور ضباطهم. طبعا، مرة أخرى، هذا الموقف الذي قد يكون صحيحا نظريا وثوريا لم يجد أي آذان صاغية. وهكذا استمرت الحرب 8 سنوات سقط خلالها ما لا يقل عن مليون ضحية من كل طرف.
اليوم تعود الاحتجاجات الشعبية لتكتسح المدن الايرانية. فبينما يقول المرشد علي خامنئي أن هذه الاحتجاجات مؤامرة تقودها امريكا واسرائيل والسعودية لتقويض نظام المقاومة من الداخل، يعترف حسن روحاني (الاصلاحي) بأن اسبابها غلاء المعيشة، البطالة، التضخم وتراجع العدالة الاجتماعية. ولكن يتفق الشخصان على ضرورة سحقها السريع لكي لا تتطور على غرار ما يجري في سوريا.

هكذا اذن، فقد اصبح التدخل الامريكي-الاسرائيلي- السعودي أو حتى التلويح بمثل هذا التدخل وصفة فعالة وأكيدة قادرة على إخماد كل احتجاج شعبي ضد الطغاة المحليين. ولا استبعد أن تكون هذه خطة متفق عليها لانقاذ الانظمة الاستبدادية الفاسدة كما حدث في سوريا حيث كان التدخل الامريكي-السعودي ل"صالح" الثورة سببا حاسما في بقاء النظام . هكذا أصبح على شعوب العالم، وليس الشعوب العربية فحسب،  منذ اليوم أن تتنازل عن حلمها بالحرية والكرامة لأنه لا يمكن تفادي التدخلات الاجنبية حقيقية كانت أم وهمية وعلى القوى "الثورية" و"التقدمية" أن تدافع عن طغاتها المحليين مهما كانوا فاسدين في وجه الغزاة الاجانب. للوهلة الاولى تبدو الثورات التحررية قد اصبحت مستحيلة، للوهلة الاولى فقط. ولكنها في الحقيقة اصبحت اشد ضرورة والحاحا من أي وقت مضى. فالشعوب تعرف مضطهديها وسوف تكنسهم إلى مزبلة التاريخ عاجلا أم آجلا.

No comments: