رياح برائحة النفط
علي زبيدات - سخنين
عندما بدأ ما أتفق على تسميته الربيع العربي قبل ست سنوات ونيف في تونس وأخذ ينتشر في دول عربية أخرى وقفت أمام ظاهرة عدم اقتراب هذا الربيع من دول مجلس التعاون الخليجي. حاولت في عدة مقالات تحليل هذه الظاهرة. لست هنا بصدد التطرق إلى تسمية ما جرى بالربيع العربي، منذ البداية لم تروقني هذه التسمية ولكن بما انها اصبحت واسعة الانتشار والاستعمال فلا بأس من استعمالها فكلنا يعرف على الاقل ما المقصود حتى ولو سميته خريفا أو جحيما أو مؤامرة كونية. مهما كانت التسمية فإن ما حدث منذ أن شبت النار في جسد محمد البوعزيزي وحتى فرض الحصار الخليجي على قطر تشكل مرحلة واحدة تختلف جذريا عما سبقها في تاريخ العالم العربي الحديث.
ذكرت في تحليلاتي السابقة، وبدون الإسهاب في التكرار، سببين أساسيين لعدم وصول الربيع العربي إلى دول الخليج: الأول، أن هذه الدول تتمتع، بفضل أموال النفط والغاز، بمستوى مقبول من الحياة لمعظم السكان مما يتيح للأنظمة رشوة شرائح واسعة منهم وكسب سكوتهم وطاعتهم. والثاني، أن هذه الدول محمية من قبل أمريكا وأوروبا وإسرائيل والتي لن تسمح لأي طرف كان زعزعة استقرار هذه الدول.
اليوم أجد هذا التحليل غير كاف. فقد أهملت أسباب أخرى بعضها بالغ الأهمية وربما كانت أهم من السببين المذكورين. أكتفي هنا بذكر سببان أساسيان آخران. الأولى: غياب المجتمع المدني بشكل جزئي أو بشكل شبه كامل عن هذه الدول. غالبية السكان من العمال الوافدين من بلدان فقيرة المحرومين من أبسط الحقوق المدنية، ممنوع أن يتنظموا في نقابات أو أحزاب سياسية أو جمعيات، ممنوع أن يطالبوا بحقوقهم كعمال، تأشيراتهم مؤقتة وإن طالت إقامتهم، يخافون من أي تحرك خوفا من الطرد. ولكن مهما كانت ظروف عملهم رديئة تبقى أفضل بما لا يقاس من الأوضاع في بلادهم الأصلية. بالمقابل يتمتع أبناء العشائر الأصليين بامتيازات جعلت منهم طبقة سائدة محافظة ومنغلقة على نفسها تعمل المستحيل للحفاظ على امتيازاتها. على عكس الدول الأخرى التي انتشر بها الربيع العربي حيث كان فيها الصراع الطبقي بين الطبقات الحاكمة والطبقات الكادحة واضحة المعالم.
السبب الثاني: هو أن هذه الدول تفتقد للتراث النضالي التحرري. استقلالها في بداية سنوات السبعين بعد أن ولى عصر الاستعمار القديم جاء من خلال صفقة. خرجت بريطانيا شكليا ولكنها بقيت عمليا وفيما بعد فسحت المجال لتحل أمريكا مكانها. بينما كانت الدول الأخرى ذات تراث نضالي تحرري مرموق ليس ضد الاستعمار القديم والحديث فحسب بل أيضا ضد الطغاة المحليين الذين وصلوا للحكم تحت عباءة الاستقلال حتى بعدما تبين أنه استقلال وهمي.
هذه الأسباب مجتمعة وأسباب أخرى عديدة وضعت هذه الدول بمنأى عن الأحداث التي عصفت بدول عربية عديدة في المنطقة. ولكن ما حدث كان كافيا لجعلها مرعوبة. فلم تستطع الوقوف على الجدار والاكتفاء بالمشاهدة. وظنت إذا تدخلت في شؤون الدول الأخرى سوف تضمن لنفسها الاستقرار والسلامة. فمثلا، عندما تدخلت قطر سياسيا وإعلاميا وماديا بما حدث في تونس ومصر ومن ثم في سوريا لم يكن هدفها مساندة الشعوب التي هبت مطالبة بحقوقها وكرامتها كما يبدو للوهلة الأولى بل كان هدفها هجوم مضاد مسبق لإبقاء الأحداث بعيدا عن ساحتها. وعندما تدخلت الإمارات بشكل فاضح إلى جانب حلف الناتو لاحتلال ليبيا لم يكن هدف هذا التدخل تخليص الشعب الليبي من استبداد القذافي. اما في سوريا فقد بدا هذا الدور أكثر وضوحا نظرا لقربها الجغرافي وثقلها السياسي. فقد عملت دول الخليج مجتمعة وكل دولة على حدة كل ما تستطيعه لاجهاض الحراك الشعبي وحرفه عن مساره الديمقراطي التحرري بمساعدة التنظيمات السلفية المختلفة وهذا التقى في نهاية المطاف مع مصالح وسياسة النظام الأسدي الأمر الذي أضفى عليه الصفة المزيفة كمحارب للارهاب ومقاوم للامبريالية الأمريكية وعملائها في المنطقة.
اليوم الأمور بدأت تتغير. تورط هذه الدول بالأحداث في الدول المجاورة (وخصوصا سوريا واليمن) بالإضافة للابتزاز الأمريكي أفرغت ميزانياتها. الحماية الأمريكية نفسها تراجعت مع إصرار ترامب على تدفيع كل من يطلب الحماية وكأن الحماية في الماضي لم تكن مدفوعة الثمن. وأمريكا مستعدة أن تتخلى عن حلفائها واستبدالهم بآخرين كما فعلت في تونس وفي مصر وفي اليمن. فليس غريبا أن تتخلى عن حلفائها القطريين.
رياح جديدة تهب فوق دول الخليج تفوح منها رائحة النفط. شرارة صغيرة قد تشعل المنطقة بأسرها. غزو قطر من قبل حلفائها السابقين وخصوصا السعودية والإمارات كاف بأن يغير وجه المنطقة ككل وسوف يتحول مثل هذا الغزو إلى حرب طويلة الأمد تحرق الأخضر واليابس. تغيير حكام قطر عن طريق تدبير انقلاب تدبره قوى خارجية كفيل هو الآخر بأن يشعل المنطقة. حسب رأيي، لن تعود الأمور إلى سابق عهدها وكل السيناريوهات تشير إلى أن عصر "الاستقرار" قد انتهى وبدأ عصر التغيير.
No comments:
Post a Comment