نشر د. عمر سعيد مقالا مطولا بعنوان: "عندما يحدث طلاق السياسة من الفكر" تناول فيه علاقة العمل السياسي وخصوصا على ساحتنا المحلية بالفكر النقدي. وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه يوجد طلاق بين الاثنين. مما لا شك فيه أن موضوع المقال على درجة عالية من الأهمية وكان من المفروض فتح هذا الملف منذ وقت بعيد على ضوء الأوضاع المزرية للفكر العربي وللسياسة العربية على الساحة المحلية والقومية. المشكلة في مقال د. عمر سعيد، كما سأحاول أن أوضح لاحقا أنه لم يتجرأ على وضع الإصبع على الجرح واكتفى بخدش الموضوع من الخارج ولاعتبارات حزبية ضيقة تقاعس عن المضي قدما بما اقترحه هو ذاته.
يبدأ الخلل بالعنوان. لكي يكون هناك طلاق يجب أن يسبق ذلك زواج. وأنا ازعم أن السياسة والفكر في عالمنا العربي لم تربطهما هذه العلاقة ابدآ. وأكثر من ذلك، حتى علاقة حب غير شرعية عابرة لم تكن بينهما.
يصف الكاتب في بداية المقال بأن الثقافة العربية تعاني من تصلب في العروق وانسداد في الشرايين وذلك بسبب غياب الممارسات الفكرية النقدية الجريئة التي تتصدى للبنى الاجتماعية والثقافية المتهتكة. يبدو الكاتب من خلال هذا الوصف متفائلا بعض الشيء، فالتصلب في العروق وانسداد الشرايين لم يعد ذلك المرض الخطير مع تطور الطب الحديث. ما تعاني منه السياسة العربية والفكر العربي أخطر من ذلك بكثير. إنهما بدون مبالغة يعانيان من فقدان المناعة المكتسبة.
أوافق الكاتب انه يوجد هناك تضخم مشوه لقيمة وفعالية العقل السياسي النفعي على حساب الفكري والمعرفي. ولكن هذا لا ينبع من الفوضى الفكرية العارمة ومن الاضطراب الأخلاقي لمصطلحاتها حيث أن هذه الأمور ذاتها ليست سوى أشكال ونتاج للسياسة النفعية وعلينا أن نبحث عن أسبابها في انعدام الفكر النقدي الخلاق.
يذكر الكاتب ثلاثة أمور تميز ساحتنا الثقافية والسياسية المحلية ويحاول أن يجد تبريرا لبعضها. أولا: مقاومة الطمس والاحتواء الصهيوني. ثانيا: القطيعة الثقافية مع الامتداد العربي. ثالثا: الصراع بين الحداثة والأصالة.
من غير الاستخفاف بأهمية وخطورة هذه الأمور إلا أن استعمالها كمبررات لوضعنا البائس ما زالت الطريق طويلة وإلقاء المسؤولية على طرف معين وإعفاء الآخرين منها هو في حده الأدنى يفتقد للمصداقية وبعيد عن الجرأة الفكرية التي يطالب الكاتب نفسه بها.
هيمنة خطاب حزبي واحد على ساحتنا المحلية على الصعيدين السياسي والثقافي، والمقصود هنا الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان له دور فعال في الاحتواء الصهيوني. فقد ظهر هذا الحزب وكأنه مصاب بنوع من انفصام الشخصية. فمن جهة هو يعرف نفسه بأنه" حزب الوطنية الإسرائيلية" ومن جهة أخرى يعتبر نفسه جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية. وهو يقبل بإسرائيل كتجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره ويحتفل بذكرى استقلال هذا الكيان ومن جهة أخرى يشارك في إحياء النكبة الفلسطينية. هذه السياسة وهذه الممارسات غير مبنية على ايدولوجيا "علمية" وعلى تحليل "تاريخي" كما يسخر الكاتب مشيرا إلى النظرية الماركسية، بل على العكس من ذلك: هذه السياسة والممارسات مبنية على تخلي الحزب عن الايدولوجيا العلمية وعن التحليل التاريخي للواقع. التحريفية سيطرت على هذا الحزب قبل عام النكبة بوقت طويل.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا ويضع مصداقية الكاتب على المحك هو: بعد كسر هيمنة الخطاب الحزبي الواحد هل أصبح وضعنا أحسن؟ وهل الحزب الذي ينتمي إليه الكاتب شكل البديل المطلوب؟
لقد كنا نعيش في وهم المعرفة وما زلنا نعيش في وهم المعرفة. كل ما فعلناه هو تغيير وهم بوهم آخر. بماذا يختلف الكلام عن حل الدولتين عن الكلام عن الدولة ثنائية القومية أو دولة جميع مواطنيها إذا كانت الكنيست الصهيوني هي الطريق لجميع هذه الحلول. هل يوجد حقا فرق بين عضو كنيست ينتمي للحزب الشيوعي الإسرائيلي وللأحزاب العربية الأخرى؟ كلهم في الاسرلة سواء ولا يغير هذه الحقيقة كبر العلم الفلسطيني المرفوع في المظاهرات ولا الكلام المنتفخ عن القومية العربية. الكنيست توحدكم جميعا.
وعندما أفلست الايدولوجيا "العلمية" و"التاريخية" ودخلنا إلى عصر حوانيت الجمعيات الممولة بسخاء خارجيا هل أصبح واقعنا الثقافي أفضل؟ هل إيديولوجيا "التصور المستقبلي" و "الدستور الديمقراطي" و"وثيقة حيفا" أفضل؟
مصيبتنا لا تكمن فقط بأننا نعيش وهم المعرفة وليس المعرفة نفسها بل نميل دائما إلى تصديق ما هو جاهز والى تقبل الأشياء مسلمة. ما يقوله الحزب هو الصحيح وغيره خاطئ. وطبعا في مشهدنا المحلي يمكن دائما اختزال الحزب بزعيمه.
إذن، كسر هيمنة الحزب الواحد، وهيمنة الخطاب الواحد لم تقودنا إلى التعددية كما نعلل أنفسنا بل إلى الشرذمة والى المزيد من الشرذمة.
الانقطاع الثقافي عن العالم العربي كعامل في أزمة الثقافة المحلية هو موضوع واسع لا مجال للخوض به هنا. ولكنني أكتفي بالقول أن المأزوم لا يستطيع أن يخلص غيره من أزمته. الفكر النقدي العربي في حالة يرثى لها ومعظم من يطلق عليهم "مفكرون" أو يطلقون على أنفسهم هذا الاسم نراهم ليسوا أكثر من موظفين في القنوات الرسمية العربية أو مفكري بلاط على غرار شعراء البلاط القدامى.
وأخيرا أود أن أتطرق باختصار إلى مسالة الحداثة والأصالة والى غرامنا المفرط بالتراث واعتباره المركب الأهم في هويتنا الوطنية في مواجهة الاحتواء الصهيوني. أولا وقبل كل شيء أقول: إذا أردنا اللحاق بركب التاريخ يجب أن نلقي على الأقل ب90% من "تراثنا" إلى مزبلة التاريخ. يجب أن نقبر هذا التراث ونتابع المسير وإلا بقينا خارج الحضارة. فقط من حاضره تعيس ومستقبله أتعس يهرب للجوء إلى ماضيه ويكرر المقولة الممجوجة: من لا ماض له لا مستقبل له. حضارة الشعوب تقاس بالتقدم الذي تنجزه، أي بمدى التغيير الذي تحققه وليس بمدى ركودها وتحجرها. الشعب الذي يتقدم هو الذي يصنع التاريخ والشعب الذي يراوح مكانه سيجد نفسه عرضة للقمع والعبودية. الهوية، ذلك الشعار السحري يجب أن نفككه إلى مركباته الأولية ونتخلى عن كل مركب فقد تاريخ صلاحيته بدون رحمة. أليس ما حدث في شفاعمرو مؤخرا ومن قبل في المغار والناصرة وغيرها هو جزء من تراثنا؟ هو جزء من هويتنا؟ فلماذا نذرف دموع التماسيح الآن.
من أجل النهوض بالفكر النقدي، من أجل الارتقاء بثقافتنا الوطنية من الحضيض ووضعها في مصاف الحضارة الإنسانية التقدمية يجب أن نهزم أولا ذلك الوهم المعرفي الذي نعيش فيه. يجب علينا تحطيم العديد من الأصنام التي نعبدها.
من أجل ذلك نستطيع أن نبدأ بخطوة بسيطة كل واحد في فينا يستطيع أن يخطوها وهي أن نضع كل شيء موضع سؤال من غير أن ننزلق إلى وهم وكأننا نملك أجوبة نهائية. في خضم هذا الصراع الثقافي الشاق والطويل عينا في الوقت نفسه أن نتعلم العيش رغم اختلاف الآراء الأفكار من الخلال الحرص على حرية الفكر من جهة والتسامح من جهة أخرى.