Wednesday, May 13, 2009

61 عاما على النكبة بين الشرعية واللاشرعية


العلاقة بين المطلق والنسبي هي علاقة جدلية في غاية التعقيد يحكمها قانون وحدة وصراع الاضداد. فعندما نقول:كل شيء نسبي فإننا نقول في الوقت نفسه: كل شي مطلق. هذا لا يعني فقط أن احدهما قد يتحول الى الآخر حسب الزمان والمكان واالظروف بل يعني أيضا أن المطلق موجود داخل النسبي والعكس هو صحيح وأن الفرق بين المطلق والنسبي هو في حد ذاته نسبي حسب كافة المعايير المنطقية.
العلاقة بين الهزيمة والانتصار تجسد هي أيضا قانون وحدة وصراع الاضداد. فكم من إنتصار يكون أسوأ من هزيمة، وكم من هزيمة تحمل في أحشائها بذور الانتصار؟ الهزيمة قد تكون أم الانتصار كما قد يكون الانتصار أب الهزيمة. قد يخوض المرء عدة معارك ويخسرها ولكنه يربح الحرب وقد يحدث عكس ذلك تماما.
أسوق هذه المقدمة النظرية لكي أدخل صلب الموضوع وهو مرة أخرى الذكرى ال61 لنكبة فلسطين. قبل أسبوعين قامت جماهيرنا بإحياء هذه الذكرى بمسيرة العودة الثانية عشر لقرية الكفرين المهجرة تحت شعار: "يوم إستقلالهم هو يوم نكبتنا" حيث كانت دولة إسرائيل في اليوم ذاته، تحتفل بيوم"إستقلالها" حسب التقويم العبري.
لا اريد هنا التطرق الى هذه المسيرة التي كانت حسب رأيي هزيلة من حيث التنظيم والمضمون، بل من أهزل مسيرات العودة حتى اليوم، إذ عبرت عن رايي هذا في حينه. لذلك إخترت التقويم الميلادي المتعارف عليه لتناول جوانب أخرى من هذه الذكرى تتجاهلها عادة مسيرات العودة التي لا تتجاوز عملية رد الفعل التي يوحي اليها شعارها الرئيسي.
في يوم الجمعة، الساعة الرابعة بعد الظهر في 14 ايار ن عام 1948 وقف دفيد بن غوريون في تل ابيب يتلو ما يسمى بوثيقة الاستقلال ويعلن قيام دولة إسرائيل. وكان ذلك عدة ساعات قبل إسدال الستار على الانتداب البريطاني المقررفي منتصف الليل من اليوم نفسه.
بعد مرور أكثر من قرن من قيام الحركة الصهيونية ( المؤتمر الصهيوني الاول عام 1897) ومرور 61 عاما على تحول هذه الحركة الى دولة نستطيع أن نقيم، بما تسمح به مقالة صحفية قصيرة، هل حققت هذه الحركة – الدولة إنتصارا ساحقا (مطلقا) أم أن إنتصارها كان نسبيا؟ أم أنها هزمت او انها في طريقها الى الهزيمة في تحقيق أهدافها المعلنة؟ هل الشرعية الدولية التي حظيت بها هي شرعية حقا أم غير شرعية؟
مما لا شك فيه أن الحركة الصهيونية إستطاعت أن تحقق إنجازات هامة إستطاعت أن تغير وجه التاريخ في منطقتنا. يكفي أن نذكر هنا وعد بلفور الذي منحها حق الاستيطان في فلسطين بمساعدة دولة عظمى في حينه هي بريطانيا. ومن ثم الانتداب الصادر عن عصبة الامم الذي كان هدفه المعلن هو تنفيذ وعد بلفور وأخيرا قرار التقسيم الذي إتخذته الامم المتحدة.
إلا أن هذه الانجازات بالرغم من أهميتها وخطورتها فإنها لم ترتق الى درجة الانتصار المطلق. حيث بقيت الحركة الصهيونية حركة هامشية حتى بين اليهود أنفسهم الذين فضلوا الهجرة الى أوروبا وأمريكا وكانت الحركة الصهيونية بحاجة الى النازية وجرائمها وإستغلالها الى أقصى الحدود لكي تستطيع جلب أكبر عدد ممكن من يهود العالم الى فلسطين. وكل ما إستطاعت الحركة الصهيونية فعله بعد أكثر من قرن من نشاطها المكثف هو جلب حوالي ثلث يهود العالم. وهذا يعني من منظور تاريخي فشلا أكثر من أن يكون نجاحا إذا علمنا أن مبدأ الصهيونية الاول كان ولا يزال جلب كافة يهود العالم الى فلسطين.
بالاضافة الى ذلك فإن شرعية وعد بلفور وصك الانتداب وقرار التقسيم هي شرعية نسبية جدا قد تحولت الى ضدها بسبب الرفض الفلسطيني الشعبي لها، وهو صاحب القضية والقرار. وقد شعرت الدولة الوليدة بذلك، وتبين لها أن الشرعية الدولية التي حصلت عليها لا تساوي شيئا إذا لم تنل الشرعية العربية والفلسطينية. وهنا يجب أن نعترف أن دولة إسرائيل هنا أيضا حققت إنجازات كبيرة عملت على تغيير وجهة المنطقة. عندما صدر قرار التقسيم عام 1947 كان الحزب الشيوعي الاسرائيلي هو الحزب الوحيد الذي أعترف بشرعية الدولة وبسبب موقفه هذا أفلس جماهيريا ونبذ على الصعيدين الوطني والقومي ووجد نفسه في خندق واحد مع الاحزاب الصهيونية ومع المتعاونين معها من الفلسطينيين. ولكن لاحقا بدأ الشرخ يتسع خصوصا بعد حربي 1967 و1973. وجاء الاختراق الاكبر في إتفاقيات كامب ديفيد التي أخرجت أكبر دولة عربية وهي مصر من دائرة الصراع ومن ثم ضم الاردن في أعقاب إتفاقيات وادي عربة. إلا أن الاختراق الاخطر كان في إتفاقيات اوسلو حيث إنخرط قسم كبير من أصحاب القضية المباشرين في تسوية منحت الدولة العبرية شرعية تفوق كل ما تقدم. وشارك بها أحزاب وتنظيمات "قومية" و"وطنية" رفضت إتفاقيات أوسلو شكلا وقبلت بها روحا ونهجا وأخذت تنظر لدولة ثنائية القومية أو دولة جميع مواطنيها أو صيغ غامضة من الدولة الديموقراطية العلمانية. وأخيرا جاءت "مبادرة السلام العربية" لكي تقدم الشرعية على طبق من ذهب للدولة التي قامت على أسس لا شرعية حسب كل المعايير الدولية والانسانية والاخلاقية.
للوهلة الاولى يبدو وكأن دولة إسرائيل قد حققت حلمها الابدي بعد أن حصلت على الشرعية الدولية والعربية والفلسطينية.ولكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. فإن جميع هذه "الشرعيات" نسبية ومزيفة وهي في نهاية المطاف لاشرعية. فبعد اكثر من 30 سنة على توقيع معاهدة "السلام" بين اسرائيل ومصر ما زال الشعب المصري بكافة طبقاته الاجتماعية يرفض الاعتراف بهذه الدولة والتطبيع معها وعندما يزول النظام القائم سوف تزول "شرعيته" معه. كذلك الشعب الاردني وبعد أكثر من 15 سنة ما زال في غالبيته يرفض منح اي صبغة شرعية لدولة إسرائيل. أما على الساحة الفلسطينية، فأنه الى جانب نهج أوسلو التسووي ينمو ويترعرع نهج المقاومة الشعبية التي تعتبر إسرائيل كيانا غير شرعي.
الخلاصة هي أن الحركة الصهيونية ومن ثم دولة إسرائيل تحمل جرثومة فنائها في أحشائها وتحمل لاشرعيتها تحت ثوب شرعيتها المهترئ. لاشرعية إسرائيل لا تقوم على الجرائم التي إقترفتها في حق الشعب الفلسطيني منذ عام النكبة وحتى اليوم من تشريد وتدمير ونهب واستيطان وحسب بل تتعداها الى لاشرعية مبادئها المعلنة، حيث منحت نفسها،وبصورة غير شرعية، حق تمثيل يهود العالم، في الوقت الذي نبذ معظمهم مبادئها. الحركة الصهيونية التي إنبثقت عنها دولة إسرائيل هي في نهاية المطاف حركة سياسية مصيرها كباقي الحركات السياسية من صعود وهبوط، إزدهار وإضمحلال حتى الزوال.
ما نراه اليوم من سيطرة صهيونية على الصعيد المحلي والاقليمي والعالمي ليس أكثر من حالة طارئة، نسبية ومشروطة، تتحول امام نظارنا الى ضدها.

No comments: