صرح ايهود اولمرت، رئيس الحكومة الاسرائيلية المستقيل، الذي اجبر على الاستقالة بشكل مخز بسبب فضائحه وإخفاقاته المتكررة:" حلم إسرائيل الكبرى انتهى من غير رجعة. ومن أجل الحفاظ على يهودية الدولة يجب تقاسم الارض مع من نعيش معهم". اي انه بعد 60 عاما إستيقظ من النوم ليشاهد أن الحلم الصهيوني بإقامة اسرايل الكبرى قد تبدد وذهب مع الريح. فلا يسعنا هنا إلا ان نقول له: صح النوم.
ولكن ماذا عن حلم "اسرائيل الصغرى"، تلك الدولة التي يريد أولمرت وغيره من زعماء الصهيونية الذين يقفون الى يساره او الى يمينه يريدون المحافظة على "يهوديتها"؟. يبدو أن هذا الحلم، بالنسبة لهؤلاء الزعماء، لم ينته بعد ولكنه من المؤكد انه لم يعد حلما ورديا جميلا بل نراه يتحول كل ليلة الى كابوس مرعب ومخيف. وحتى يزول هذا الحلم أيضا بشكل نهائي ويعترفوا بزواله، سيبقى الصراع مستمرا حتى يجد التاريخ الحل الوحيد الذي يقبله: الحلم الذي يقوم على الاساطير وعلى القرارات غير الشرعية مصيره الاندثار.
أظن أن دولة اسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي قامت على اساطير وخرافات لم يعد يؤمن بها أحد حتى اؤلئك الذين يدعون الايمان بها. ثمة لا يوجد هناك شعب مختار لله وبالتالي لا يوجد وعد رباني لمنح هذه الارض أو تلك لمثل هذا الشعب. هذه الاساطير لم تعد موجودة في صورتها الحديثة أيضا والتي تقول: "شعب بلا أرض يعود الى ارض بلا شعب".
تبقى القرارات غير الشرعية والتي لعبت بالفعل دورا حاسما في إقامة هذه الدولة. ولكن عدم شرعية هذه القرارات يحمل في احشائه ضرورة وحتمية زوالها. يكفي أن نذكر في هذا السياق ثلاثة قرارات غير شرعية بإمتياز كانت دولة اسرائيل نتجة لتنفيذها.
وعد بلفور:
وهو من أغرب الوعود التي عرفها التاريخ قديمه وحديثه. حيث يقوم طرف غريب، غاشم مغتصب، بوعد طرف آخر يحمل الصفات نفسها لمنحه شيئا لا يملكه وليس له ادنى حق فيه. هكذا قامت بريطانيا، الدولة الاستعمارية العريقة التي نهبت خيرات العالم بوعد الحركة الصهيونية، وهي حركة استعمارية نشأت وترعرعت فيي ظل الاستعمار الاوروبي، بمنحها فلسطين من غير أخذ رأي اهلها لا من قريب ولا من بعيد. ما زالت لاشرعية هذا الوعد بعد حوالي قرن من صدوره تصرخ حتى السماء.
صك الانتداب البريطاني على فلسطين:
خطوة عملية لتحقيق وعد بلفور المذكور، ولكن هذه المرة بتغطية دولية وتحت وصاية عصبة الامم المتحدة. الانتداب هي كلمة مخادعة استعملت كقناع لحالة استعمارية كلاسيكية. كان الهدف الصريح منها هو تمكين الحركة الصهيونية حتى تصبح قادرة على إقامة دولة تحل في الوقت المناسب مكان الاستعمار البريطاني وتواصل دوره في المنطقة.
قرار التقسيم:
في 29 تشرين ثاني من عام 1947 إكتملت المؤامرة وأصبح تنفيذها ممكنا. في هذا اليوم اتخذت الامم المتحدة، وريثة عصبة الامم، قرار 181 بتقسيم فلسطين ومنح الجزء الاكبر منها للحركة الصهيونية لإقامة دولة اسرائيل عليها. وإعتبر هذا القرار تجسيدا "للشرعية" الدولية حيث صوت الى جانبه 33 عضوا بينما عارضه 13 آخرون. ولكن دراسة حيثيات هذا القرار والظروف التي أتخذ بها تؤكد العكس من ذلك تماما: فقد كان تجسيدا للاشرعية الدولية. البرهنة على لا شرعية هذا القرار هي موضوع لدراسات عميقة ومستفيضة وليس مقالة صحفية، ولكن يكفي هنا أن نذكر بعض السمات التي طبعت لاشرعية هذا القرار:
كان عام 1947 عام انتخابات للرئاسة الامريكية ومن أجل كسب دعم تأييد اللوبي الصهيوني قام الرئيس ترومان بالضغط لاتخاذ هذا القرار الصهيوني. الا يذكرنا ذلك بالانتخابات الامريكية الاخيرة حيث قام جميع المرشحين من اوباما الى ماكين ونائبيهما وباقي المرشحين بالتهافت على اللوبي الصهيوني والتسابق في تعبيرهم عن مدى التأييد للدولة لعبرية؟
وكان هناك سبب آخر يكمن خلف تأييد ترومان وباقي الزعماء الغربين لهذا القرار وهو رغبتهم في تحويل أنظار يهود اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من الهجرة الى بلدان اوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية وتشجيعهم للهجرة الى فلسطين. هكذا قامت الادارة الامريكية بالضغط وفي بعض الاحيان تهديد وحتى ابتزاز بعض الدول لكي تصوت الى جانب قرار التقسيم. وقد كانت حال الامم المتحدة في ذلك الوقت لا تختلف عن حالها في أيامنا هذه حيث تفعل الولايات المتحد بها ما تشاء، كل ذلك تحت قناع "الشرعية الدولية"
لقد كان رفض الشعب الفلسطيني لهذه القرارت المجحفة أمرا طبيعيا حتى ولو كلفه ذلك غاليا. ولكن المصيبة أن اوساط فلسطينية متنفذة بدأت تتراجع عن هذا الموقف المبدئي الرافض. هذا التراجع بدأ منذ زمن بعيد وكان أول تجلياته الرسمية تبني منظم التحرير الفلسطينية ما يسمى بالبرنامج المرحلي وقبولها بمبدأ المفاوضات والمساومات لحل الصراع. وبعد سنتين من تبني هذا الخيار، أي في عام 1976 قررت الامم المتحدة منح منظمة التحرير مكافأة على تراجعها هذا، وأصدرت قرارا بإعتبار يوم 29/11 وهو ذكرى قرار التقسيم المشؤوم يوما "للتضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني". وقد بلع هذا الطعم السام اوساط واسعة من الجماهير الفلسطينية والعربية، ناهيك عن كافة الانظمة، بعد أن بهرت أبصارهم مظاهر "التضامن" الرسمية من ملوك ورؤساء وزعماء عالميين ومحافل دولية. وكان ثمن ذلك إما نسيان قرار التقسيم المجحف وإما تبنيه على إعتبار انه يجسد الشرعية الدولية التي يجب أن نؤسس عليها مطالبنا. ومن أجل الحقيقة نقول: لقد دفع هذا الثمن كاملا.
قرار تقسيم فلسطين كان باطلا عندما أصدر في عام 1947 وهو ما زال باطل اليوم حتى بعد أن قبله عدد كبير من ضحاياه وهو سيبقى باطل مهما طال به الزمن.