أحيت جماهير شعبنا الفلسطيني في جمع أماكن تواجده الذكرى أل 59 للنكبة بكافة الإشكال التقليدية المتبعة والمتعارف عليها. ونحن هنا بدأناها بمسيرة العودة العاشرة إلى قرية اللجون المهجرة، تحت شعار: يوم استقلالهم يوم نكبتنا. حيث شارك بها الآلاف من المهجرين ومن باقي قطاعات شعبنا الفلسطيني. والذين اثبتوا أن النكبة لم تصبح مجرد ذكرى بل هي حية دائما وأبدا ولا يوجد حاجة لإحيائها. مما يحتم مراجعة المصطلح المتداول:" إحياء ذكرى" النكبة. الأمر الوحيد الذي عكر صفو الموقف هي تلك الخطابات المجترة التي تنضح بالشعارات الرنانة ولكنها تفتقر إلى ابسط المضامين العملية.
نظمنا الزيارات للعديد من القرى المهجرة، وقفنا على الإطلال، تذكرنا الأحباء والمنازل، زرنا المقابر وآثار الجوامع والكنائس، وقلبنا الأحجار الملقاة بين أشجار التين والصبر وتنشقنا رائحة أرض الوطن الضائع، وبعضنا ذرف الدموع.
نظمنا المهرجانات والمحاضرات والندوات. وقام مثقفونا وأكاديميينا بتنظيم الأيام الدراسية الطويلة في المكاتب الفخمة وأبراج الجامعات الإسرائيلية والفنادق. والقوا المحاضرات العلمية والأبحاث عن النكبة، وعملوا كل ما في وسعهم لترويج التصور المستقبلي والدستور الديمقراطي، وذلك، ويا لسخرية الأقدار، لاستجداء المسئولين عن النكبة لكي يشفقوا علينا ويقبلوننا كمواطنين متساوين في الدولة التي قامت على الأنقاض التي نزورها. وختمنا ها بمسيرة جبارة في رام الله وبإطلاق النار على بعضنا البعض وقتل بعضنا البعض في غزة.
وأخيرا، سكبنا كميات هائلة من الحبر على الورق ونحن نكتب المقالات والدراسات والأبحاث والكتب عن النكبة وأسبابها ونتائجها.
بعد هذا كله، السؤال الذي يطرح نفسه هنا: وماذا بعد؟ هل نعالج النكبة بإحياء ذكرى النكبة كل عام؟ هل إحياء الذكرى كفيل بأن يزيل آثار النكبة عن صدورنا، يعيد اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم ويضمن لشعبنا الحرية والاستقلال؟
الجواب هو لا وألف لا. ستبقى النكبة جاثمة على صدورنا إلى يوم القيامة إذا ما اكتفينا بإحياء ذكرها على الشكل الروتيني الذي نفعله كل عام.
لقد فقدنا البوصلة، لم نعد نعرف ما هي غايتنا وتزعزعت ثقتنا بعدالة قضيتنا. فمنا من تنازل عن حق العودة أو كفر بإمكانية تحقيقه. ومنا من يقتل آخاه لهثا وراء سلطة وهمية، ومنا من حقق ثراء فاحشا من مصائبنا. حتى وصلنا إلى زمن أصبح به اللاجئ، المشرد الذي يدافع عن ابسط حقوقه الإنسانية إرهابيا مطاردا بينما أصبح المجرم ضحية يتمتع بما يسمى بالشرعية الدولية وأصبحت جرائمه دفاعا عن النفس.
القضية الأساسية التي من شانها أن تعيد البوصلة الفلسطينية إلى اتجاهها الصحيح هي حسب رأيي العمل على نزع ما يسمى "الشرعية الدولية" عن الدولة الصهيونية والكف عن الاقتصار على الكلام حول عدم شرعية الاستيطان، الجدار، الحواجز أو حتى الاحتلال. السؤال الذي يجب أن يطرح وليس بشكل نظري مجرد بل عملي وملموس هو: عدم شرعية الوجود. ومن أجل البرهنة على ذلك ليس بالضرورة أن نكون خبراء بالقانون الدولي. يكفي أن نتوقف عند أربع محطات في تاريخ الحركة الصهيونية التي تحولت عام النكبة إلى دولة إسرائيل لكي نثبت للقاصي والداني عدم شرعية هذه الدولة. هذه المحطات الأربع هي:
1) المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897: في مدينة بازل السويسرية أجتمع 280 مندوبا من 16 عشرة دولة وقرروا إقامة حركة استعمارية هدفها إقامة دولة يهودية بالتعاون مع الدول الاستعمارية الأخرى. وهكذا تأسست الحركة الصهيونية لنشر مبادئها الكولنيالية بين يهود عالم، تنظيمهم وتشجيعهم للهجرة إلى فلسطين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف أقاموا الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كيمت) لجمع التبرعات من أجل شراء الأراضي الفلسطينية وتمويل هجرة المستوطنين إليها. أليس مؤتمر كهذا قمة اللاشرعية الدولية؟ وإلا يستطيع كل من تسول له نفسه أن يجتمع ويقرر السطو على أي مكان في العالم.
2) وعد بلفور عام 1917: وزير خارجية بريطانيا بلفور وباسم حكومة جلالة الملك والذي لا يملك ذرة رمل في فلسطين يعد الصهيوني روتشيلد الذي لا حق له بذرة رمل من تراب فلسطين بأن الحكومة البريطانية تؤيد أقامة "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين" وسوف تبذل غاية جهدها لتحقيق هذه الغاية. أليس هذا مثالا صارخا على خرق كل شرعية دولية؟ والمصيبة أن يتم ذلك بدون سؤال أصحاب الأرض أصلا.
3) الانتداب البريطاني: في عام 1918 ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى احتلت القوات البريطانية فلسطين. وبحجة مساعدة شعبها حتى يكون قادرا على الاستقلال فرضت ما يسمى بالانتداب، مع انه في الحقيقة والواقع كان احتلالا. ولكن الهدف الحقيقي من وراء هذا الانتداب وبموافقة عصبة الأمم كان تنفيذ وعد بلفور. ومن أجل ذلك تم تعيين الصهيوني هربرت صموئيل كمندوب سامي أول، ومن هنا بدأت الخطوات العملية الأولى لسلب فلسطين. نعم إنها أكبر عملية سلب في التاريخ وفي وسط النهار.
4) قرار التقسيم 1947: على هذا القرار المجحف تؤسس دولة إسرائيل شرعيتها الدولية من حيث الأساس. مع أن لا شرعية هذا القرار تصرخ إلى السماء. حيث مارست بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سياسة تهديد وابتزاز لكي تضمن الأغلبية في الأمم المتحدة، ونحن نعرف اليوم كيف تتخذ الأمم المتحدة في ظل السيطرة الأمريكية قراراتها. هذا بالإضافة إلى لاشرعية لأي هيئة كانت أن تنهب ارض شعب وتمنحه لأي مهما كان.
علينا أن نستغل هذه المحطات الأربع لكي ننزع أي صفة شرعية تتمتع بها الدولة التي قامت نتيجة لها. إن قيام هذه الدولة على أسس عنصرية نظريا وعمليا كان خطأ تاريخيا. نعم التاريخ يخطئ مثله مثل الإفراد والحركات والدول، ولكن من جهة أخرى يمكن تصحيح أخطاء التاريخ، والشعوب المناضلة التي تصنع التاريخ هي القوى القادرة على تصحيح أخطائه أيضا.
No comments:
Post a Comment