هذه هي الديمقراطية الفلسطينية
علي زبيدات - سخنين
من يظن أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة فهو مخطئ. يوجد هناك دولة أخرى تنافسها بالديمقراطية وهي دولة فلسطين. نعم يوجد هناك من يصر على تسميتها دولة بينما يكتفي البعض بتسميتها سلطة وطنية أو سلطة فلسطينية، إما تواضعا وإما تشكيكا. عن "الديمقراطية" الاسرائيلية نحن نعرف كل شيء أو تقريبا كل شيء: فهي دولة قانون ودولة مؤسسات. لها برلمان يسمى الكنيست منتخب بشكل ديمقراطي كل اربع سنوات أو كلما دعت الحاجة لذلك. وهو مفتوح أمام الجميع بمن فيهم نواب يمثلون من يطلقون على أنفسهم الاقلية الاصلانية الفلسطينية مواطني الدولة. وهناك سلطة تنفيذية تسمى الحكومة مسؤولة أمام البرلمان الذي يستطيع أن يحجب عنها الثقة ويسقطها. وهناك جهاز قضائي "مستقل" يستطيع أن يضع البرلمان والحكومة عند حدهما إذا تجاوزا القوانين الأساسية. وهذه الدولة تملك جيشا يعتبر من أقوى جيوش العالم، ولكن هذه الصفة ليست أهم صفاته. ما يميزه عن باقي جيوش العالم هو كونه الأكثر أخلاقية حتى أصبحت ابشع الجرائم التي يقترفها تخرج من تحت يديه نعمة على المقتولين بسبب "طهارة" سلاحه. ويمارس احتلالا متنورا لا مثيل له في العالم إلى درجة أن الذين يعيشون تحت هذا الاحتلال لا يموتون من أجل دحره والتخلص منه بل على العكس يموتون حرصا عليه وعلى بقائه ويعشقون الحواجز والجدران العازلة والاغتيالات. أصلا لا يوجد هناك احتلال وبالتالي لا يوجد جيش احتلال إذ هل يعقل أن يحتل جيش أرضه؟ هذا غيض من فيض من سمات "الديمقراطية" الاسرائيلية. ومن يريد أن يتنور أكثر في هذا المجال سوف يجد الجواب عند معتوهي الأرض وأشدهم عنصرية ليزودوه بما يريد من معلومات.
ولكن ما هي حكاية الديمقراطية الفلسطينية؟ في هذا الصدد لدي تجربة شخصية مع هذه الديمقراطية تعود إلى ما قبل قيام السلطة، عفوا الدولة، واسمحوا لي أن أقصها عليكم بإختصار: في نهاية عام 1988 قدم ياسر عرفات على رأس وفد فلسطيني رفيع المستوى من أجل إلقاء خطاب في مقر الأمم المتحدة في جنيف. وكان ذلك بناء على إملاءات أمريكية في إطار المساعي للتوصل إلى اتفاقية سلام مع اسرائيل. وقد وصلت هذه المساعي إلى ذروتها شهرا قبل موعد الخطاب المذكور في جنيف، وبالتحديد في الدورة ال19 للمجلس التشريعي في الجزائر حيث تم الإعلان عن " استقلال" فلسطين والاعتراف الضمني بدولة إسرائيل. ولكن التنازلات التي قدمها المجلس الوطني في الجزائر لم تكن كافية بالنسبة للادارة الامريكية حتى تقبل بمنظمة التحرير شريكا رسميا وتبدأ بمفاوضات مباشرة معها. وطالبت ياسر عرفات بالقدوم الى جنيف لكي يلقي خطابا ينص بشكل صريح على الاعتراف بقرار 242 الذي كانت المنظمة بكافة فصائلها ترفضه وإدانة كافة انواع الارهاب والذي يعني نبذ الكفاح الفلسطيني المسلح ضد الكيان الصهيوني.
كانت الجلسة مفتوحة، وقد غصت القاعة بالوفود القادمة من كافة أرجاء العالم. وكان هناك وفد كبير من عرب اسرائيل ( في ذلك الوقت لم تكن هذه التسمية حساسة كما هي عليه اليوم). كنت هناك، جئت بمفردي قادما من دولة أوروبية. بعد عاصفة من التصفيق استمرت لبضع بدأ ياسر عرفات بإلقاء خطابه.دقائق وفي مرحلة ما من الخطاب قال:" إن الشعب الفلسطيني يعترف بقرار مجلس الأمن 242 ويستنكر ويدين كافة أشكال الإرهاب". فلم أجد نفسي الا وأنا واقفا في احد الصفوف الخلفية في القاعة صارخا في وجه عرفات: " هذا الكلام كذب. فالشعب الفلسطيني يرفض قرار 242 المجحف في حقه وقد قدم آلاف الشهداء لاسقاطه، كما أن الكفاح الفلسطيني ليس إرهابا بل ما تقوم به إسرائيل وامريكا هو الارهابي". فما كان من عرفات الا أن صمت للحظة وقد بدت على وجهه الصدمة، اذ كيف يقوم شخص نكرة بمقاطعة الرئيس بهذه الوقاحة. ومن ثم قال: "هذه هي الديمقراطية الفلسطينية" وتابع خطابه بعد أن تفجرت عاصفة التصفيق.
وقعت هذه الحادثة قبل 30 سنة. ولكن ما هي مناسبة سرد هذه القصة الآن؟ المناسبة هي أن منظمة هيومن رايتس ووتش أصدرت تقريرا يدين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية (وسلطة حماس في غزة) باعتقال وتعذيب منهجي للمنتقدين والمعارضين السلميين. وأنها شكلت كيانات بوليسية تمارس انتهاك حقوق الانسان. وطالبت الدول المانحة بتعليق مساعداتها للوحدات والاجهزة الامنية الضالعة بمثل هذه الممارسات. وقد كان رد السلطة على هذه الاتهامات عنيفا ملخصه: أن دولة فلسطين هي دولة ديمقراطية، دولة قانون ومؤسسات (لاحظوا، العبارات نفسها التي تستعملها إسرائيل)، تلتزم بتعهداتها وواجباتها، تحترم حقوق الإنسان وتدافع عنها، وتعتمد في ذلك ليس على المعاهدات الدولية بهذا الخصوص فحسب بل على وثيقة الاستقلال الفلسطينية من حيث الاساس، وأن تقرير هيومن رايتس ووتش حول التعذيب الممنهج والاعتقال هو تقرير سياسي يتوافق مع الموقف الأمريكي.
لست هنا بصدد الدفاع عن هذه المنظمة أو مهاجمتها. ولكن اظن اننا لسنا بحاجة الى مثل هذا التقرير لمعرفة ما يدور في دهاليز الأجهزة الامنية الفلسطينية (في الضفة وفي قطاع غزة على حد سواء) من تعذيب واعتقالات تعسفية. قامت الادارة الامريكية مؤخرا بتقليص مساعداتها للصحة والتعليم في فلسطين وإيقاف مساعداتها لمنظمة الأونروا، الاجهزة الامنية كانت الوحيدة التي استثنيت من هذه التقليصات. على غرار الديمقراطية الاسرائيلية، اعترفت الديمقراطية الفلسطينية بحصول بعض التجاوزات الفردية التي تقوم الاجهزة الامنية بواجبها بالتحقيق في حيثياتها، ولكن النتيجة كانت دائما، كما في الجارة اسرائيل، عندما يقوم جهاز أمني بالتحقيق مع نفسه، انه لم تتم محاسبة او ادانة أي عنصر ارتكب مثل هذه التجاوزات.
خذوا ديمقراطيتكم وانصرفوا. ليست هذه هي الديمقراطية التي يطمح بها ويناضل من أجلها الشعب الفلسطيني.