طائرة الدولة الواحدة لم تحلق
علي زبيدات - سخنين
عندما كنا صغارا، والحديث يعود إلى أكثر من نصف قرن، نحن أيضا كنا نلعب بالطائرات الورقية. ولكن على عكس طائرات غزة الورقية اليوم التي تقض مضاجع المستوطنين القريبين من القطاع بل تقض مضاجع الحكومة الاسرائيلية برمتها، كانت طائراتنا فاشلة ترفض التحليق. لم نعرف سبب ذلك حتى عندما كبرنا وتركنا هذه اللعبة وانتقلنا إلى ألعاب أخرى أكثر خطورة. أذكر أننا كنا نركض مسافات طويلة والطائرة الورقية المربوطة بخيط متين تجرجر ذيلها ورائنا، وكنا بين الخطوة والاخرى نشد الخيط بقوة لعلها ترتفع ولو قليلا ولكن من غير فائدة. وكم صعدنا إلى أحد السطوح العالية وأحيانا الى مأذنة الجامع أو إلى أي مكان مرتفع بحثا عن الهواء ولكن كانت الطائرة الورقية دائما توجه خرطومها نحو الأسفل وتهوي إلى الحضيض تماما كالطائرات الحقيقية التي كنا نشاهدها في الأفلام الحربية في ذلك الوقت.
يبدو أننا لم نكن الوحيدين الذين عجزوا عن تطيير طائرة ورقية. وأظن أن أخوتنا في الوطن العربي الكبير لم يكن حالهم افضل من حالنا. وربما من هنا جاء المثل الشعبي الذي يصف أي شيء يأبى التقدم والتغيير بأنه "لم يحلق". مع مرور الوقت نسينا الطائرات الورقية ولكن الامور التي تأبى التحليق قد ازدادت ولم يعد هناك امكانية لنسيانها بعد أن حفرت في ذاكرتنا الجمعية. فكم من تنظيمات وأحزاب وحركات سياسية جائتنا بشعارات لامعة، بافكار في غاية الروعة بذل القيمون عليها الغالي والرخيص من جهود وأموال ومؤتمرات واجتماعات ولجان ومناشير وبرامج ولكنها في النهاية لم تحلق. وهذا الامر ينطبق على الاشخاص أيضا الذين يبدون للوهلة الاولى مثاليين، ذوي ثقة عالية بأنفسهم، مثقفين ومحبوبين، ولكنهم عندما طرحوا انفسهم لقيادة تنظيم أو حزب أو حتى جمعية متواضعة لم يحلقوا.
كانت هذه المقدمة الطويلة والمملة بكل ما تحتويه من لمز وغمز ضرورية لولوج شعار "الدولة الواحدة" الذي يحاول التحليق بنسخته الجديدة في سمائنا الكئيبة. على فكرة، الاشد كسلا من المبادرين الجدد يستعملون في خطابهم "الدولة الواحدة"، الاقل كسلا يستعملون "الدولة الديمقراطية الواحدة" أما الاكثر نشاطا منهم فإنهم يستعملون "الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة". وهناك بالطبع مفردات آخرى قد تستعمل للدلالة على المفهوم نفسه مع بعض التعديلات مثل: "دولة جميع مواطنيها" "دولة المواطنين" "دولة ثنائية القومية". ولكن لكي نبسط الامور دعونا نختزل كل هذه التسميات ب"الدولة الواحدة" فهي في نهاية المطاف جاءت ردا على حل الدولتين، أو كما يبرر البعض: جاءت ردا على فشل حل الدولتين وقد تسمع بعض الاصوات "الجذرية" تقول: جاءت ردا على إفشال اسرائيل لحل الدولتين.
عقد المبادرون الجدد اجتماعهم التحضيري الموسع الثاني قبل أيام في شفاعمرو وحضره نخبة من الناشطين والمثقفين، اليهود والعرب معظمهم من المخضرمين مع قلة ضئيلة من الوجوه الشابة. وأطلقوا على مبادرتهم هذه: حملة الدولة الديمقراطية الواحدة. واختيار كلمة حملة لم يكن عبثا أو من باب الصدفة بل كان مقصودا لتفادي استعمال كلمة حركة التي تتطلب بناء تنظيميا ثابتا. فالحملة هي وصف لحالة الطائرة الورقية في مرحلة التحضير والانطلاق وتتحول إلى حركة عندما تحلق. وهذا ليس ما يطمح إليه المبادرون فحسب بل ما يؤكدون حدوثه أيضا. ومن ثم تم توزيع بيان باللغة العربية والعبرية بعنوان: "إعلان الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين". قلت في نفسي: إعلان الدولة الواحدة مرة واحدة؟ بينما ما زالوا يناقشون استعمال كلمة حملة أم حركة؟ وأجبت: أكيد هذا بسبب الحماس الزائد لكاتب البيان فالمقصود: اعلان حول أو من أجل الدولة الديمقراطية الواحدة. فليس من العدل أن تقف لهم بالمرصاد على كل نقطة وفاصلة.
أنا ضد حل الدولتين وقد كتبت حول ذلك مرارا وتكرار. كنت ضده قبل أن تبنته التنظيمات والأحزاب الفلسطينية، أي قبل اتفاقيات أوسلو ومجيء السلطة الفلسطينية وبالتحديد بعد تبني ما يسمى البرنامج المرحلي عام 1974 وانتظار الدعوة التي لم تصل للمشاركة في مفاوضات جنيف. في ذلك الوقت كان معظم الفلسطينيين يرفضون هذا الحل. ولكن أن تكون ضد حل الدولتين هو شيء وأن تكون مع حل "الدولة الواحدة" هو شيء آخر. وقد كتبت مؤخرا، أنه في السنوات العشرة الاخيرة تمت اللغوصة بشعار حل الدولة الواحدة أضعاف ما تمت اللغوصة بشعار حل الدولتين خلال ما يقارب النصف قرن.
لنلق نظرة على البند الأول من البرنامج السياسي للحملة: 1. "دولة ديمقراطية - دستورية واحدة: تقام الدولة الديمقراطية الواحدة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن ، كدولة لكل مواطنيها، بما فيهم اللاجئين الفلسطينيين، بحيث يتمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية، إضافة إلى الحرية والأمن. هذه الدولة تكون ديمقراطية دستورية، تنبع سلطة الحكم وسن القوانين فيها من إرادة الشعب، ويتمتع جميع مواطنيها بحقوق متساوية في الانتخاب والترشح لأي منصب والمساهمة في حكم البلاد".
شكرا لأنكم ذكرتم اللاجئين الفلسطينيين وكأنهم قادمون من كوكب آخر. ولكن ماذا عن المستوطنين؟ اه صحيح، مفهوم ضمنا، فالدولة لكل مواطنيها، وفي بند آخر تقولون يحق لكل مواطن أن يسكن اينما يشاء، يعني يستطيع أهل الخليل دعوة مستوطنيهم لاحتساء قهوة الصباح مع بعض. ويمكن بناء المستوطنات من غير عائق في كل مكان. وباقي الكلام: أليس هذا ما تقوله إسرائيل عن نفسها؟ الا يوجد هناك حقوق متساوية في الانتخاب والترشح لأي منصب؟ ألم يرشح أحد مفكرينا الكبار نفسه لرئاسة الحكومة وقلتم حينذاك: ضربة معلم؟ أما بالنسبة للدستور فهذه مسالة بسيطة إذ يوجد هناك حاليا قوانين اساسية أو دستورية ويوجد لجنة دستور في الكنيست وسوف تساعدها جمعية عدالة لوضع "دستور ديمقراطي" حيث كانت هناك محاولة من هذا النوع وسوف تأتي غيرها.
باقي البنود (وهي عشرة بنود) تعج بالتناقضات والتخبطات والشعارات التي ابتذلت على مر الأيام حول العدل، السلام، الحقوق الفردية والجماعية، حقوق الإنسان، القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. يحاول بعض المبادرين الذين يعتبرون أنفسهم خبراء في نظام الابرتهايد بعد عدة زيارات قاموا بها لجنوب افريقيا استيراد كلمة "تفكيك" نظام الابرتهايد واستعمالها بدون الاخذ بعين الاعتبار الفوارق الجوهرية بين النظامين العنصريين، ويتجاهلون أن ما تم تفكيكه في جنوب افريقيا هو الجانب السياسي فقط لنظام الأبارتهايد وتم الإبقاء على الجانب الاقتصادي والاجتماعي. لذلك ليس غريبا ألا تحلق طائرة الدولة الواحدة الورقية هذه المرة أيضا.
أيها الرفاق، للتوضيح والتفكير، أقول: الخيار الذي نقف أمامه في هذه المرحلة هو ليس بين حل الدولة الواحدة وبين حل الدولتين، الخيار الحقيقي ما زال بين الدولة والثورة. انا اختار الثورة.