سقوط أوهام الزمن الجميل
علي زبيدات - سخنين
ولدت بعد النكبة ولكني نموت وترعرعت قبيل النكسة وقضيت سنوات طفولتي والمراهقة بين أحضانها. أي أنني أنتمي إلى جيل ما بين النكبة والنكسة. تقبلت هذين المصطلحين: النكبة والنكسة برحابة صدر وبدون اعتراض يذكر حتى بعد أن اكتشفت لاحقا نواقصهما وتشويهما لحقيقة ما حصل. كنت اسمع عن بلاد أو مناطق منكوبة، تعرضت لكوارث طبيعية، مثلا سنة محل وقحط اسفرت عن انتشار المجاعة لفترة ما، أو منطقة تعرضت للفيضانات أو الزلازل والبراكين والعواصف فتعرض بسببها السكان إلى نكبة. بالاضافة إلى ذلك، كنت أسمع عن عائلات منكوبة، مثلا عائلة توفي معيلها بحادث مفجع أو فقدت بعض افرادها بمرض خبيث أو تورطت بجريمة قتل فزج بعض شبابها في السجون وتم ترحيل الآخرين. بإختصار، النكبة هي أمور لا سيطرة للبشر عليها وما اتفقنا على تسميته قضاء وقدر. والنكسة هي الاخرى من هذا الصنف ولكن أقل شدة. فالنكسة نوع من التعثر أو التراجع المؤقت لاسباب لم تؤخذ بالحسبان مسبقا ولكنها تبقى نسبية ومؤقته. ما ازعجني في هذين المصطلحين وما زال يزعجني أمران أساسيان: الأول: طمس حقيقة ما حدث على أنه هزيمة عسكرية وسياسية وحضارية لها اسبابها التي يمكن معرفتها بدقة ولها نتائجها التي يمكن استخلاص الدروس والعبر منها لتلافيها في المستقبل بل وتحويلها إلى ضدها. والثاني التنصل والهروب من المسؤولية على كافة الاصعدة والمستويات. كيف يعقل حدوث هزيمتين من أنكر الهزائم في التاريخ الحديث ولم يحاسب أحد من الزعامات التي صنعتها؟ ولكني، كما قلت، تقبلت هذين المصطلحين على مضض، فمن أنا حتى أتحدى كل هؤلاء السياسيين والمؤرخين والأدباء والشعراء الذين حولوا النكبة والنكسة إلى مصطلحات مقدسة اصبحت مفردات في لغات أخرى تكتب كما هي بحروف هذه اللغات.
على كل حال، ظننا أنه بعد هاتين الهزيمتين التاريخيتين -نكبة 1948 ونكسة 1967- لم يعد هناك مجال للتقهقر أكثر، فقد وصلنا إلى القاع ومن هنا لا مخرج غير الصعود ولم يعد أمامنا طريق سوى السير إلى الامام. استولت الفصائل الفلسطينية المسلحة على منظمة التحرير الفلسطينية التي اقامتها جامعة الدول العربية وأعلنت أنها ستحولها الى منظمة ثورية ليس لتحرير فلسطين فحسب بل ستكون طليعة الثورة العربية أيضا. وتم تقسيم الدول العربية إلى معسكرين كبيرين: دول تقدمية وتضم الجمهوريات التي أعلنت عن معاداتها للاستعمار والصهيونية ودعم الثورة الفلسطينية، تتزعمها مصر وتضم كل من الجزائر وسوريا والعراق والدول الرجعية الملكية بزعامة السعودية وتضم الأردن والمغرب ومن ثم دول الخليج.
هذه الفترة والتي لم تدم طويلا والتي لم تتجاوز، في أحسن تقدير، العشر سنوات (من عام 1968 عندما استولت الفصائل المسلحة على منظمة التحرير الفلسطينية وحتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل عام 1978) ما اسميه الزمن الجميل. هنا ربينا أوهاما اخترقت حدود السماء. طبعا، في ذلك الوقت لم نطلق عليها أوهاما بل آمالا وأحلاما بل أكثر من ذلك، كانت برامج ومشاريع وعمليات فدائية ونضال وطني. وكنا نستعمل مفردات انقرضت في هذه الايام مثل: ايديولوجية، استراتيجية، اشتراكية، قومية تقدمية… أتذكر الآن، وأنا لا أعرف هل اضحك ام ابكي، عندما كنا نناقش: هل الوحدة طريق العودة أم العودة طريق الوحدة؟ وعندما كانت التنظيمات اليسارية تناقش: هل في مرحلة التحرر الوطني، تستطيع البرجوازية الوطنية قيادة النضال أم الطبقة العاملة هي الوحيدة القادرة على ذلك؟
انتهت الكذبة الحلوة التي سميتها الزمن الجميل. فبينما كانت الشعوب العربية تنتظر الحرب التحريرية القادمة بفارغ الصبر، كانت زعيمة المعسكر "التقدمي" مصر تخطط لحرب تحريكية تنقلها إلى طاولة المفاوضات أولا في جنيف ومن ثم إلى كامب ديفيد توصلت في نهايتها الى اتفاقية تفوق النكبة والنكسة مجتمعتين في عواقبها. غضبت باقي الدول "التقدمية" لفترة وجيزة على الزعيمة الخائنة وشكلت "جبهة الصمود والتصدي" وسرعان ما تبين أن المقصود بالصمود هو التمسك بكراسيهم وأن التصدي يعني التصدي لشعوبهم وإبقائها تحت النعال العسكرية. اليوم فقط مشعوذ أو مهرج يستطيع أن يتكلم عن أنظمة عربية تقدمية وأخرى رجعية.
أما عن منظمة التحرير الفلسطينية التي سميناها مجازا بالثورة الفلسطينية فكما يقول المثل: لملمت أغراضها ولحقت ربعها. فالمنظمة نفسها قد تم تحنيطها بعد أن أفرغوا ميثاقها الوطني من أحشائها واستبدلوها بسلطة أوسلو. يخطئ من يظن أن التقهقر الفلسطيني واللهث وراء المساومات بدأ مع توقيع اتفاقيات أوسلو بل بدأ على الأقل 20 سنة قبل ذلك.
نعم، سقطت أوهام الزمن الجميل المزيف من غير رجعة وآن لها أن تسقط. مهمتنا اليوم خلق زمن جميل حقيقي مفعم بالأحلام الجميلة التي تترجم إلى أعمال ثورية تقدمية جميلة. الشعب الفلسطيني وشعوب العالم المضطهدة قادرة على اجتراح مثل هذا الزمن.