خواطر وذكريات من يوم الأرض
علي زبيدات - سخنين
عند قراءة هذه السطور تكون الذكرى ال41 ليوم الأرض قد ولت، فهي إذن لن تؤثر سلبا أو إيجابا على مجريات الأمور. ولم يكن القصد منها أصلا أن تؤثر على أية مجريات. جرت العادة، في السنوات الأخيرة، أن أكتب قبيل حلول يوم الارض مقالا انتقد فيه ما آلت إليه هذه الذكرى وكنت كثيرا ما اتساءل: ماذا تبقى من يوم الأرض سوى المسيرة التقليدية المركزية في إحدى قرى يوم الأرض والتي تضمحل كل سنة لكي تنتهي بمهرجان خطابي يتكرر كل سنة ليس من حيث المحتوى فحسب بل لفظيا أيضا، وبعض المسيرات المحلية التقليدية أيضا في بعض القرى وبعض النشاطات الحزبية المحلية. في هذه السنة تنبهت إلى حقيقة ادهشتني وهي أن إحياء الذكرى ليس وحده أصبح روتينيا ومملا بل نقدي هو الآخر أصبح روتينيا ومملا. بل أكثر من ذلك فقد وجدت أن صفحات التواصل الاجتماعي تعج بالانتقادات لما آلت اليه ذكرى يوم الأرض بروح الانتقادات التي كنت اكتبها سابقا وهي بدورها أصبحت روتينية ومملة. وشعرت أننا جميعا في ورطة. فقد تبين اننا كلنا تقريبا في النهاية غير راضين عما حدث لذكرى يوم الأرض ولكن كلنا ساهم من موقعه في بلورة هذه الذكرى حتى أخذت شكلها الحالي.
لذلك قررت هذه السنة وعلى غير المعتاد ألا أكتب مقالا نقديا بل أكتب عن بعض الخواطر والذكريات الشخصية من يوم الارض في سنواته الأولى.
لم يحصل لي شرف المشاركة في أحداث يوم الأرض الأول عام 1976 وذلك لاني كنت اقبع في أحد السجون الاسرائيلية كأسير سياسي أمضى عقوبة من ست سنوات. أذكر أن جميع الأسرى السياسيين من كافة التنظيمات قد شاركوا بالاضراب العام الذي دعت اليه لجنة الدفاع عن الأراضي على طريقتهم الخاصة. كان الإضراب داخل السجن يعني في الأساس الاعتكاف داخل الغرف والامتناع عن الخروج للنزهة اليومية المحددة لمدة ساعة إلى ساحة السجن المغلقة من كافة نواحيها والتي كان الأسرى ينتظرونها بفارغ الصبر، وعقد جلسات تثقيفية على مستوى التنظيمات في كل غرفة. في تلك الفترة كانت وسائل الاتصال مع خارج السجن شبه معدومة، كان مسموحا لنا أن نرى نشرة الاخبار المسائية على التلفزيون الاسرائيلي وبسبب الإضراب منعنا من ذلك، وكانت تصل للقسم جريدة بالعبرية منعت هي الأخرى. لذلك لم نعلم التفاصيل عن المواجهات والشهداء والجرحى والمعتقلين إلا في مرحلة متأخرة. ولكن الاجواء النضالية ليوم الأرض كانت مسيطرة في كافة الزنازين وجرفت حماس وفخر كافة الأسرى الذين شعروا بأنهم شاركوا فعلا في احداث يوم الارض . في السنوات التالية كان الأسرى في السجون يحيون ذكرى يوم الأرض بالإضراب أي بالامتناع عن الخروج للتنزه اليومية وفي بعض الأحيان الامتناع عن تناول الطعام ليوم واحد وتنظيم ندوات سياسية على مستوى الغرف أو التنظيمات ومتابعة إحياء الذكرى في الخارج.
كان علي أن أنتظر خمس سنوات لكي اشارك فعليا للمرة الأولى في إحياء ذكرى يوم الأرض. كان يوم الارض قد بدأ يفقد الكثير من زخمه النضالي ولكن روحه النضالية كانت لا تزال تنبض بقوة. كانت المسيرة التقليدية قد فرضت نفسها ولكن إلى جانبها كان الشباب يخرجون إلى الشوارع ويغلقون بعضها بالحجارة ويحرقون الإطارات وكانت الشرطة تلاحق الناشطين أياما وفي بعض الأحيان أسبوعا قبل أن تحل الذكرى وتعتقلهم. وفي بعض الأماكن كانت تحصل مواجهات بين الشرطة والشباب ليس بمستوى أحداث يوم الأرض الأول ولكن كانت كافية لإغلاق مداخل البلد. وكان الشباب يتسلحون بالإضافة للحجارة برؤوس البصل حيث كانت الغازات المسيلة للدموع ترافق كل يوم ذكرى. وكان لي الشرف أن أكون من ضمن هذا المشهد حيث تعرضت للملاحقة والاعتقال والإقامة الجبرية وفي احد ايام الارض الصاخبة في سخنين سجنت لفترة سنة كاملة. ولكن كانت هذه الأجواء تتراجع بخطوات سريعة حتى انتهت تماما بعد حوالي عشر سنوات من يوم الارض الاول. يبدو أن لجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحلية قد توصلت إلى اتفاق مع الشرطة تبقى بموجبه خارج القرى على أن تقوم هي بالحفاظ على النظام في المسيرات. وهكذا أخذ المنظمون المحليون دور الشرطة بمنع الشباب من التجمهر في الشوارع ومنعهم من إغلاق المفارق وحرق الإطارات، بالمقابل كانت الشرطة تتمركز خارج القرى واكتفت بأن تقوم من حين لآخر بعرقلة وصول المشاركين من القرى الأخرى إلى المسيرة المركزية.
وهكذا أصبحت ذكرى يوم الأرض نضالية على الورق وفي الخطابات البيانات و تقليدية ومحافظة ومملة على أرض الواقع. وهكذا تقلص عدد المشاركين في المسيرات وكثير منهم يشاركون بسبب التزامهم الذاتي والحنين الى الماضي النضالي ليوم الأرض. الاستثناء الوحيد كان يوم الارض سنة 2000 بسبب المعسكر على مدخل سخنين الغربي حيث تمت اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة أسفرت عن استشهاد الشهيدة شيخة ابو صالح واعتقال العشرات وتقديمهم للمحاكمة، يوم الأرض هذا في ذكراه ال24 كان المقدمة الذي شحذ الهمم في هبة القدس والأقصى في أكتوبر من العام نفسه. ولكن هذا موضوع آخر قائم بذاته.
الكل يتفق أن واقع جماهيرنا اليوم لا يقل سوءا عن الواقع في يوم الارض الاول بل اشد سوءا، ولكن من جهة اخرى الكل تقريبا يحاول جاهدا ألا تكرر أحداث يوم الأرض الأول.
بعد 41 سنة تضعنا قضية الأرض أمام خيارين: مسيرة تقليدية لتنتهي بمهرجان خطابي ساخن ولكن خضوع فعلي كامل للسياسة الحكومية أو مسيرة نضالية لا تهاب المواجهات والاعتقالات واستنشاق الغاز المسيل للدموع وهذا يبقى ثمنا رخيصا لإنقاذ ما تبقى من الأرض.