الجريمة والعقاب
علي زبيدات - سخنين
الحكم سنة ونصف بالسجن على الجندي القاتل الأور أزاريا لم يسدل الستار نهائيا على القضية بعد. ما حدث كان المشهد الأخير في مسرحية لم تنته بعد. جميع الدلائل تشير إلى وجود مشهد وربما مشهدين آخرين على الأقل حتى تنزل هذه المسرحية عن خشبة المسرح وتفسح المجال لعرض مسرحية غيرها. المشهد القادم قد يكون الاستئناف للمحكمة العليا على العقاب "الشديد" الذي كان من نصيب هذا "المحارب" العنيد. ومشهد آخر مؤكد سوف يتناول قضية العفو عنه من قبل رئيس الدولة أو من قبل قيادات عسكرية مخولة. كانت بعض المشاهد السابقة التي امتدت على مدى عام كامل مثيرة للغاية بينما كان البعض الآخر مملا للغاية. بدأ المشهد الأول في 24 مارس 2016 عندما قام الجندي أزاريا بإطلاق رصاصة من مسافة صفر على رأس عبدالفتاح الشريف الذي كان قد تلقى قبل ذلك بقليل ست رصاصات من جنود آخرين بحجة أنه حاول طعن جندي. هذا المشهد الاول كان عفويا، أقصد أنه لم يكن هناك إخراج له أو كان الإخراج سيئا، حيث لم يتم إغلاق المنطقة تماما أمام الغرباء مما أتاح، ربما عن طريق الصدفة، تسلل كاميرا يحملها ناشط في منظمة لحقوق الإنسان التقطت صورة الحدث. اليوم يعترف جميع المشاهدين و المراقبين والنقاد أنه لولا الصورة لما كانت هناك قضية أو مسرحية أصلا. بعد ذلك تتالت المشاهد أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الحملة التي أطلقها اليمين الاستيطاني دعما للجندي بصفته ضحية، فهو لم يعمل شيء سوى تنفيذ السياسة العامة للجيش الذي أرسله للدفاع عن الدولة ومواطنيها وبالتالي لا مكان لتقديمه لأي محاكمة، بل المطلوب عكس ذلك تماما، منحه وسام تقدير. ولكن الكاميرا اللعينة فتحت الطريق أمام مشهد آخر أبطاله النخبة العسكرية ممثلة بوزير الحرب حينذاك يعلون وقائد الأركان أيزنكوت اللذان وجدا نفسيهما مضطرين للدفاع عن المؤسسة العسكرية ككل حتى ولو خذلا جنديا واحدا إلى حد معين. وهكذا جاء خطاب يعلون في الكنيست بأن ما قام به ازاريا لا يمثل الجيش الذي يتمسك بما يسمى"طهارة السلاح". رد اليمين الاستيطاني لم يتأخر ولم يكتف بالهجوم على يعلون الذي اضطر للاستقالة بل شهدت تل أبيب مظاهرة شملت آلاف الإسرائيليين الداعمين للجندي. المحاكمة بحد ذاتها قدمت عدة مشاهد مثل: توجيه تهمة القتل، الاعتقال المفتوح، شهادات الدفاع، الإدانة بالقتل والمشهد الأخير كما قلت آنفا: الحكم على الجندي القاتل بالسجن لمدة سنة ونصف.
لن اتكلم عن قرار الحكم كثيرا. من يبحث عن العدالة فعليه أن يبحث في مكان آخر. حاولت قراءة قرار الحكم كاملا الذي يملأ 24 صفحة ولكني توقفت بعد قراءة عدة صفحات. كان قرار الحكم كما قرأته القاضية مايا هيلز وباعترافها يهدف منذ الكلمة الأولى للتوفيق بين القانون الذي يحدد سياسة عقاب واضحة بشكل يخدم قيم اجتماعية على حد تعبيرها وبين المتهم وظروفه الخاصة والظروف الخاصة للحدث نفسه. واعترفت أيضا بأن هذا التوفيق كان صعبا ومعقدا. وبالتالي ضربت بالقيم الاجتماعية التي تكلمت عنها بعرض الحائط و انحازت تماما للظروف الخاصة للمتهم وللحدث الذي احدث شرخا عميقا حسب رأيها داخل المجتمع الإسرائيلي. فالعقاب على جريمة القتل كما ينص عليه القانون الإسرائيلي نفسه تصل إلى 20 سنة سجن، وكلما اقترفت الجريمة بدم بارد و بقرار مسبق كما كانت عملية القتل هذه، كلما اقترب العقاب الى حده الاقصى. ولكن العقاب تقلص إلى الحضيض حتى فاجأ النيابة نفسها التي طالبت بضعف هذا الحكم على الاقل اي ثلاث سنوات.
لا أحد يدري حتى الآن إذا كان ازاريا سيدخل السجن أم لا. فقد تم تأجيل البدء بتنفيذ الحكم 12 يوما وفي حالة تقديم استئناف للمحكمة العليا سوف يطلب محامو الدفاع التأجيل حتى نهاية الاستئناف الذي قد يستغرق ثلاثة أشهر أو أكثر. وبعد ذلك سوف تبدأ المطالبات بالعفو. وإذا لم يكن هناك استئناف سوف تبدأ المطالبات بالعفو فورا. وهذا ما يطالب به جميع السياسيين الإسرائيليين من نتنياهو وبنيت وكاتس إلى كحلون ولبيد وهرتسوغ الذين صرحوا بضرورة إصدار عفو فوري عن الجندي القاتل. هل ما زال هناك من يذكر قضية الحافلة رقم 300؟
بالمقابل، ماذا فعلنا نحن للدفاع عن الشهيد عبدالفتاح الشريف غير الإدانات شديدة اللهجة؟ وبالمناسبة لقد نسينا تماما الشهيد رمزي القصراوي الذي أعدم هو الآخر بدم بارد في الحادثة نفسها. نسي تماما وذلك لسوء حظه بعدم وجود كاميرا توثق عملية الإعدام مما وفر على دولة إسرائيل عناء المحاكمة مهما كانت صورية.
لائحة الاتهام موجودة ليس ضد الجندي القاتل فحسب بل ضد العديد من الضباط في الجيش والاجهزة الامنية الاخرى، ولدينا قضاة أكثر نزاهة واستقامة وموضوعية من القاضية مايا هيلر وزملائها الذين تلاعبوا بالقانون الذي وضعته مؤسساتهم وضربوا مثلا بالافلاس الاخلاقي. متى سوف ننتهي من الإدانة وننتقل إلى المحاكمة؟