إنها نكبة، بل أكثر من نكبة
علي زبيدات – سخنين
لا اعتراض لدي في استعمال مصطلح نكبة لوصف ما حل بالشعب الفلسطيني عام 1948: اقتلاع وتهجير 850 ألف فلسطيني، أي أكثر من نصف الشعب الفلسطيني حينذاك، في المناطق المحتلة التي قامت عليها دولة إسرائيل وصلت نسبة التطهير العرقي للسكان إلى 85%، هذا بالإضافة إلى هدم وتدمير 531 قرية وقتل أكثر من 15 ألف مواطن، وسلب الأرض والممتلكات. إذا كان كل ذلك ليس بنكبة فما هي النكبة إذن؟
ولكني أضم صوتي إلى الأصوات العديدة التي تقول أن مصطلح النكبة بالرغم من شموليته وأهميته إلا أنه لا يغطي كافة نواحي ما حدث في عام 1948. في هذه العجالة سوف أتوقف عند ناحيتين قد طغى عليها بل طمسها استعمال مصطلح "النكبة" ولم تأخذ حقها كما يجب ومن الضروري اليوم التركيز عليهما.
الناحية الأولى: إن ما حدث كان جريمة، جريمة حرب، جريمة ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم ويعاقب عليها القانون الدولي خصوصا وأن المجرم معروف وقد اقترف جرائمه على مرأى ومسمع العالم بأسره. وها هو يحتفل بجرائمه. بعض ضحايا هذه الجرائم ما زالوا أحياء في مخيمات اللجوء وفي شتى أصقاع الأرض وبعضهم قد لقي حتفه بعد مرور 64 عاما بعد ما أورثوا المعاناة لأولادهم وأحفادهم. ماذا فعلنا حتى ينال هؤلاء المجرمون جزاءهم العادل؟ القليل القليل. بل وفي السنوات الأخيرة أصبح كل شي قابلا للمساومة باسم المفاوضات وحتى أن قسم منا أصبح يشاركهم في احتفالاتهم.
الناحية الثانية: التي طغى عليها وطمسها مصطلح النكبة هي أن ما حدث عام 1948 كان هزيمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان. وللهزيمة، كل هزيمة، يوجد أسباب ويوجد مسئولون عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل استوعبنا أسباب الهزيمة؟ وهل تحمل أحد المسؤولية عنها أو نال عقابه؟ الجواب هو كلا. ما زالت أسباب الهزيمة تنخر في عظامنا وما زال المسئولون عنها يتبؤون المراكز القيادية في فلسطين وفي دول المواجهة ويقودوننا من هزيمة إلى أخرى لا تقل من حيث هولها عن هزيمة عام النكبة. المصيبة أنهم حولوا هذه الهزائم الحقيقة إلى انتصارات وهمية عن طريق الخطابات والشعارات وتزييف التاريخ والتشبث بتلابيب السلطة. سوف تستمر النكبة ما دمنا لا ندرك ولا نعي أسبابها وما دامت القوى الميتة التي تجثم فوق صدورنا هي التي تحدد لنا مسيرتنا.
إذن، ما حدث عام 1948 كان نكبة وجريمة وهزيمة. وعلينا ألا ننسى ذلك ونحن نحيي الذكرى ال64 للنكبة. لست ضد زيارات القرى المهجرة في هذه المناسبة بالعكس يجب زيارتها كل أيام السنة وليس يوما واحدا فقط. ولست ضد ما يسمى بمسيرات العودة، بل يجب تنظيم النشاطات التي تعبر عن تمسكنا بحق العودة طوال السنة وليس في يوم واحد. كل ما أقوله بكل بساطة: أن مسيرات العودة كما تنظم الآن وكما تنظم كل سنة لا تقربنا ولو بشبر واحد من العودة الحقيقية. تماما كما أن مسيرات يوم الارض بالشكل الذي نشهده لن تعيد لنا سنتمترا واحدا من الأرض المصادرة.
برنامج هذه المسيرات معروف سلفا: زج آلاف المتظاهرين المتحمسين والمتشبثين بحق العودة في طريق وعرية ملتوية، لكي لا تستفز الشرطة، وتركهم فريسة للمشاحنات والنزاعات الحزبية، حتى الوصول إلى أرض المهرجان وسماع خطابات رئيس لجنة المتابعة، مندوب "لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين"، ممثل لجنة القرية المهجرة وكلمة لمواطن يهودي يعاني من تأنيب الضمير ويتكرم علينا باعترافه بحق العودة، ومن ثم بعض الفقرات الفنية "الملتزمة". وبعدها يعود كل واحد إلى بيته في انتظار الذكرى القادمة على أرض قرية مهجرة أخرى.
هل يعرف أحد ماذا تعمل لجنة "الدفاع عن حقوق المهجرين" في باقي أيام السنة؟ وهل يعرف أحد كيف تتخذ هذه اللجنة قراراتها؟ ومن خولها أصلا حق احتكار هذه الذكرى؟ أظن أنه بعد خمسة عشرة مسيرة من مسيرات العودة، وهي في الحقيقة نسخة مكررة لمسيرة واحدة، قد آن الأوان لمراجعة كافة حيثياتها وجوانبها لكي تصبح بالفعل رافعة تقربنا إلى العودة الحقيقية. الخطوة الأولى على طريق التغيير هي البدء بنقاش مفتوح وصريح يتناول القضية بمجملها. كنت في الماضي، ولم أكن الوحيد، قد قدمت بعض الاقتراحات التي، حسب رأيي، قد تساهم في كسر الروتين وتصب في مصلحة حق العودة بشكل عملي. وكان الاقتراح الأهم هو إجراء دراسة لإمكانية إعادة بناء إحدى القرى المهجرة يتم اختيارها لكي تكون نموذجا بالتعاون مع أهلها المهجرين والتفاف كافة جماهير شعبنا وتنظيم حملة إعلامية على مستوى عالمي تواكب هذه الخطوة. ولكن على حد علمي، لم يتم مناقشة هذه الفكرة على اعتبار أنها فكرة خيالية.
على كل حال اليوم لدي اقتراح جديد، إلى جانب القديم الذي ما زال ضروريا، ولا أخجل من الاعتراف إنه جاء من وحي ما تقوم به دولة إسرائيل قبل احتفالها بعيد استقلالها. حيث تقوم بإحياء ذكرى من "سقطوا في حروب إسرائيل" والذين بلغ عددهم حتى اليوم 22993 وقد فوجئت بأن العد يبدأ من عام 1860 ولم أقم بفحص ما جرى في ذلك العام فلأمر لا يعنيني. ولكن ما سقط من الشعب الفلسطيني ومن الأمة العربية في "حروب فلسطين" يبلغ عشرات بل مئات الأضعاف ممن سقط في "حروب إسرائيل" على مدى قرن ونصف. وفي بعض الأحيان، ما سقط في حرب واحدة كان يفوق هذا العدد. وللأسف أقول إنني لم أجد في أي مكان عدد الذين سقطوا من أجل فلسطين. ماذا نعمل لإحياء ذكرى هؤلاء الشهداء؟ ولماذا لا نخصص لهم مكانا يليق بهم عندما نحيي ذكرى النكبة؟ لماذا نتجاهلهم وكأنهم غير موجودين؟ أدخلوا إلى المواقع الإسرائيلية لكي تروا الكمية الهائلة من القصص عن العائلات الثكلى، ألا يوجد عائلات فلسطينية وعربية ثكلى؟ وهل وجعهم وألمهم أقل من وجع وألم العائلات اليهودية الثكلى؟ استمعوا إلى خطابات رئيس الدولة ورئيس الحكومة وباقي المسئولين الإسرائيليين في هذه المناسبة وهم يذرفون دموع التماسيح على "ضحاياهم". بينما في الطرف الآخر حتى دموع التماسيح قد جفت.
في ذكرى النكبة يجب أن نذكر ونتذكر كل شيء.