حمى المصالحة وأوهام الوحدة
علي زبيدات – سخنين
كتبت في الماضي وها أنا أعود وأكتب: ليست كل وحدة هي وحدة ايجابية وليس كل انشقاق هو انشقاق سلبي. الوحدة التي تجمع بين الغث والسمين، وتخلط القمح مع الزوان وبين من يخدم قضية شعبه العادلة بإخلاص وبين الذي يتاجر ويفرط بها لا يمكن أن تكون وحدة ايجابية حتى وأن جعلنا منها بقرة مقدسة وأحطناها بهالة من القدسية وأطلقنا عليها اسم "الوحدة الوطنية" الذي لا يستطيع أن يتطاول عليه أحد. في المقابل، الانشقاق الذي جاء ليفرز القمح عن الزوان، ليعري ويسقط العناصر الطفيلية التي تساوم على الثوابت، والذي جاء للدفاع عن قضية الشعب لا يمكن أن يكون سلبيا.
حسب رأيي، في خضم النضال ومع تطور الأحداث على كافة المستويات لا يوجد هناك حالة نموذجية مثالية. فالوحدة كما الانشقاق يحملان بين طياتهما عناصر ايجابية وأخرى سلبية وتشكل عملية معقدة من وحدة وصراع الأضداد. لذلك يجب تناول كل ظاهرة وحدة أو انشقاق بشكل ملموس وبروح نقدية.
في الفترة الأخيرة طغت على الساحة الفلسطينية موجة من المصالحات والكلام المكثف عن إعادة الوحدة بدأت بين فتح وحماس وانتقلت إلى الحركة الإسلامية الشمالية والجنوبية ومن ثم إلى حركة أبناء البلد.
في الحقيقة كنت في البداية متعاطفا إلى أبعد الحدود مع الانشقاق بين فتح وحماس بالرغم من أنه لا يربطني بالطرفين أية علاقة تنظيمية أو أيديولوجية. وكنت أرى فيما حصل بأنه فرز بين نهجين متعارضين: نهج المقاومة مقابل نهج التفريط. وجاء لينظف الشوائب الفاسدة التي علقت بالقضية الفلسطينية والتي فرضتها النخبة المهيمنة في سلطة أوسلو. ولكن مع الوقت تبين أن الصورة تختلف بعض الشيء وأن الهدف الأساسي من الانشقاق كان الصراع على سلطة وهمية هي سلطة أوسلو. وإن الشعارات في واد والواقع في واد. طبعا منذ اللحظة الأولى للانشقاق بدأ الكلام عن المصالحة وعن إعادة اللحمة بين الطرفين والتي تكللت مؤخرا بالنجاح بعد 5 سنوات من المحاولات المعروفة لكل فلسطيني. المصالحة لم تتطرق حتى ولا بكلمة واحدة عن نهج المقاومة مقابل نهج التفريط، أو عن أية قضية مبدئية تخص صلب النضال الفلسطيني. ولكنها تمركزت حول الاتفاق لتشكيل حكومة انتقالية جديدة تضم شخصيات مستقلة، تشكيل لجنة انتخابية وبعض المطالب المتبادلة كإطلاق سراح المعتقلين من كلا الطرفيين. هل كان الانشقاق منذ البداية حول هذه الأمور؟
وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية تصور المصالحة وإعادة الوحدة بين كافة الفصائل وكأنه مطلب جماهيري مقدس على الجميع أن يهتف له ويصفق لنجاحه. بينما استمرار الانقسام هو مطلب إسرائيلي – أمريكي ويكفي تهديد نتنياهو لرئيس السلطة: يجب أن تختار إما إسرائيل وإما حماس.
الحقيقة غير ذلك. صحيح أن المطلب الإسرائيلي – الأمريكي هو أن يكون هناك انقسام فلسطيني يشغل الفلسطينيين بعيدا عن قضية العودة والتحرير ولكنه يفضل أن تكون هناك وحدة فلسطينية تعمل على وأد العودة والتحرير إلى الأبد.
المصالحة بين شقي الحركة الاسلامية في الداخل لا يهم أعضاء الحركتين وحدهم بل يهم كافة قطاعات شعبنا. هل كان الانشقاق قبل حوالي 15 سنة حول موقف مبدئي من الانتخابات للكنيست الصهيوني وحول الموقف من الكيان الصهيوني برمته أم كانت هناك خلافات شخصية امتزجت مع بعض المواقف السياسية؟ لا أخفي مرة أخرى بأني كنت اشد ميلا إلى الشق الشمالي، هذا بالرغم من بعدي التنظيمي والايدولوجي عن الطرفين. مقاطعة انتخابات الكنيست هو موقف مبدئي من غير شك، ولكن مقاطعة الشق الشمالي لهذه الانتخابات لم تكن جذرية بالقدر المطلوب وكانت تتخذ موقفا ليبراليا منها: قيادة الحركة لا ترشح نفسها ولا تنتخب ولكن القاعدة تستطيع أن تشارك أو لا تشارك. مرة أخرى تكللت محاولات المصالحة بالنجاح، هذا حسب وسائل الإعلام التي هي مصدري الوحيد للمعلومات، ولكن من غير أن تحسم هذه القضية. واليوم يقوم التحضير على قدم وساق لمهرجان الوحدة تحت شعار: مهرجان "البيعة والوفاء لرسول الله"، وكأن الانقسام كان لهذا السبب. لو كنت عضوا في أحدى الحركتين الإسلاميتين لسالت: لماذا كان الانشقاق؟ ولماذا الوحدة الآن.
المصالحة الأخيرة والوحدة الأخيرة هي بين شقي أبناء البلد، هذا على اعتبار أن الشق الثالث الذي شارك في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي وما زال منخرطا في صفوفه قد تنازل عن اعتبار نفسه طرفا في المصالحة والوحدة. على عكس الحالتين السابقتين أجد نفسي هنا متورطا عاطفيا على الأقل. فقد كانت وما زالت تربطني بهذا التيار أواصر عديدة. ولكني هنا أيضا أقف أمام لغز: لماذا كان الانشقاق أصلا وعلى أي أساس تأتي الوحدة الآن؟
بعد التجربة القصيرة والخروج من التجمع الوطني الديمقراطي أعلن كلا الشقين المقاطعة المبدئية الانتخابات للكنيست. وكانت توجه الانتقادات بين الحين والآخر لأحد الشقين بأن مقاطعته للانتخابات ليست حاسمة وليست مبدئية وأن خروجه من التجمع كان لعدم حصوله على المراكز التي كان يطمح بها. كلا الشقين وجد مكانا له في لجنة المتابعة العليا جنبا إلى جنب مع باقي الأحزاب العربية التي تؤمن بالكنيست وانتخاباتها. وأخيرا تبنى كلا الشقين حل الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة. إذن أين الاختلافات الفكرية والسياسية التي تبرر الانشقاق؟ وهل حقا لم تلعب الخلافات الشخصية دورا حاسما في هذا الانشقاق. وعلى أي أساس تتم الوحدة حاليا؟ لم أقرأ أية وثيقة سياسية تبين أسس مثل هذه الوحدة المقترحة. أبناء البلد تاريخيا هي الحركة السياسية الوحيدة التي تمسكت بالهوية الوطنية الفلسطينية كهوية وحيدة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. ولكنها لم تتطور فكريا كما وتعثرت سياسيا. في الماضي كان هناك نقاش أيديولوجي في صفوفها فمنهم من أراد أن تتبنى الحركة الماركسية اللينينية والاشتراكية العلمية ومنهم من اكتفى بالأفكار القومية العامة. اليوم لا يوجد هناك أي نقاش فكري حيث ما زال البعض يتبنى الماركسية والبعض الآخر قريب من فكر الإخوان المسلمين.
القضية ليست وحدة أو عدم وحدة الحركة بل ما هو الأساس السياسي والايدولوجي لهذه الوحدة. والقضية في الوقت نفسه ليست الانشقاق ولكن ما هي المبررات الإيديولوجية لهذا الانشقاق.
الصراع الفكري والأيديولوجي هو الضمان الوحيد لعدم الانجراف في تيار أوهام الوحدة والمصالحات.
علي زبيدات – سخنين
كتبت في الماضي وها أنا أعود وأكتب: ليست كل وحدة هي وحدة ايجابية وليس كل انشقاق هو انشقاق سلبي. الوحدة التي تجمع بين الغث والسمين، وتخلط القمح مع الزوان وبين من يخدم قضية شعبه العادلة بإخلاص وبين الذي يتاجر ويفرط بها لا يمكن أن تكون وحدة ايجابية حتى وأن جعلنا منها بقرة مقدسة وأحطناها بهالة من القدسية وأطلقنا عليها اسم "الوحدة الوطنية" الذي لا يستطيع أن يتطاول عليه أحد. في المقابل، الانشقاق الذي جاء ليفرز القمح عن الزوان، ليعري ويسقط العناصر الطفيلية التي تساوم على الثوابت، والذي جاء للدفاع عن قضية الشعب لا يمكن أن يكون سلبيا.
حسب رأيي، في خضم النضال ومع تطور الأحداث على كافة المستويات لا يوجد هناك حالة نموذجية مثالية. فالوحدة كما الانشقاق يحملان بين طياتهما عناصر ايجابية وأخرى سلبية وتشكل عملية معقدة من وحدة وصراع الأضداد. لذلك يجب تناول كل ظاهرة وحدة أو انشقاق بشكل ملموس وبروح نقدية.
في الفترة الأخيرة طغت على الساحة الفلسطينية موجة من المصالحات والكلام المكثف عن إعادة الوحدة بدأت بين فتح وحماس وانتقلت إلى الحركة الإسلامية الشمالية والجنوبية ومن ثم إلى حركة أبناء البلد.
في الحقيقة كنت في البداية متعاطفا إلى أبعد الحدود مع الانشقاق بين فتح وحماس بالرغم من أنه لا يربطني بالطرفين أية علاقة تنظيمية أو أيديولوجية. وكنت أرى فيما حصل بأنه فرز بين نهجين متعارضين: نهج المقاومة مقابل نهج التفريط. وجاء لينظف الشوائب الفاسدة التي علقت بالقضية الفلسطينية والتي فرضتها النخبة المهيمنة في سلطة أوسلو. ولكن مع الوقت تبين أن الصورة تختلف بعض الشيء وأن الهدف الأساسي من الانشقاق كان الصراع على سلطة وهمية هي سلطة أوسلو. وإن الشعارات في واد والواقع في واد. طبعا منذ اللحظة الأولى للانشقاق بدأ الكلام عن المصالحة وعن إعادة اللحمة بين الطرفين والتي تكللت مؤخرا بالنجاح بعد 5 سنوات من المحاولات المعروفة لكل فلسطيني. المصالحة لم تتطرق حتى ولا بكلمة واحدة عن نهج المقاومة مقابل نهج التفريط، أو عن أية قضية مبدئية تخص صلب النضال الفلسطيني. ولكنها تمركزت حول الاتفاق لتشكيل حكومة انتقالية جديدة تضم شخصيات مستقلة، تشكيل لجنة انتخابية وبعض المطالب المتبادلة كإطلاق سراح المعتقلين من كلا الطرفيين. هل كان الانشقاق منذ البداية حول هذه الأمور؟
وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية تصور المصالحة وإعادة الوحدة بين كافة الفصائل وكأنه مطلب جماهيري مقدس على الجميع أن يهتف له ويصفق لنجاحه. بينما استمرار الانقسام هو مطلب إسرائيلي – أمريكي ويكفي تهديد نتنياهو لرئيس السلطة: يجب أن تختار إما إسرائيل وإما حماس.
الحقيقة غير ذلك. صحيح أن المطلب الإسرائيلي – الأمريكي هو أن يكون هناك انقسام فلسطيني يشغل الفلسطينيين بعيدا عن قضية العودة والتحرير ولكنه يفضل أن تكون هناك وحدة فلسطينية تعمل على وأد العودة والتحرير إلى الأبد.
المصالحة بين شقي الحركة الاسلامية في الداخل لا يهم أعضاء الحركتين وحدهم بل يهم كافة قطاعات شعبنا. هل كان الانشقاق قبل حوالي 15 سنة حول موقف مبدئي من الانتخابات للكنيست الصهيوني وحول الموقف من الكيان الصهيوني برمته أم كانت هناك خلافات شخصية امتزجت مع بعض المواقف السياسية؟ لا أخفي مرة أخرى بأني كنت اشد ميلا إلى الشق الشمالي، هذا بالرغم من بعدي التنظيمي والايدولوجي عن الطرفين. مقاطعة انتخابات الكنيست هو موقف مبدئي من غير شك، ولكن مقاطعة الشق الشمالي لهذه الانتخابات لم تكن جذرية بالقدر المطلوب وكانت تتخذ موقفا ليبراليا منها: قيادة الحركة لا ترشح نفسها ولا تنتخب ولكن القاعدة تستطيع أن تشارك أو لا تشارك. مرة أخرى تكللت محاولات المصالحة بالنجاح، هذا حسب وسائل الإعلام التي هي مصدري الوحيد للمعلومات، ولكن من غير أن تحسم هذه القضية. واليوم يقوم التحضير على قدم وساق لمهرجان الوحدة تحت شعار: مهرجان "البيعة والوفاء لرسول الله"، وكأن الانقسام كان لهذا السبب. لو كنت عضوا في أحدى الحركتين الإسلاميتين لسالت: لماذا كان الانشقاق؟ ولماذا الوحدة الآن.
المصالحة الأخيرة والوحدة الأخيرة هي بين شقي أبناء البلد، هذا على اعتبار أن الشق الثالث الذي شارك في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي وما زال منخرطا في صفوفه قد تنازل عن اعتبار نفسه طرفا في المصالحة والوحدة. على عكس الحالتين السابقتين أجد نفسي هنا متورطا عاطفيا على الأقل. فقد كانت وما زالت تربطني بهذا التيار أواصر عديدة. ولكني هنا أيضا أقف أمام لغز: لماذا كان الانشقاق أصلا وعلى أي أساس تأتي الوحدة الآن؟
بعد التجربة القصيرة والخروج من التجمع الوطني الديمقراطي أعلن كلا الشقين المقاطعة المبدئية الانتخابات للكنيست. وكانت توجه الانتقادات بين الحين والآخر لأحد الشقين بأن مقاطعته للانتخابات ليست حاسمة وليست مبدئية وأن خروجه من التجمع كان لعدم حصوله على المراكز التي كان يطمح بها. كلا الشقين وجد مكانا له في لجنة المتابعة العليا جنبا إلى جنب مع باقي الأحزاب العربية التي تؤمن بالكنيست وانتخاباتها. وأخيرا تبنى كلا الشقين حل الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة. إذن أين الاختلافات الفكرية والسياسية التي تبرر الانشقاق؟ وهل حقا لم تلعب الخلافات الشخصية دورا حاسما في هذا الانشقاق. وعلى أي أساس تتم الوحدة حاليا؟ لم أقرأ أية وثيقة سياسية تبين أسس مثل هذه الوحدة المقترحة. أبناء البلد تاريخيا هي الحركة السياسية الوحيدة التي تمسكت بالهوية الوطنية الفلسطينية كهوية وحيدة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. ولكنها لم تتطور فكريا كما وتعثرت سياسيا. في الماضي كان هناك نقاش أيديولوجي في صفوفها فمنهم من أراد أن تتبنى الحركة الماركسية اللينينية والاشتراكية العلمية ومنهم من اكتفى بالأفكار القومية العامة. اليوم لا يوجد هناك أي نقاش فكري حيث ما زال البعض يتبنى الماركسية والبعض الآخر قريب من فكر الإخوان المسلمين.
القضية ليست وحدة أو عدم وحدة الحركة بل ما هو الأساس السياسي والايدولوجي لهذه الوحدة. والقضية في الوقت نفسه ليست الانشقاق ولكن ما هي المبررات الإيديولوجية لهذا الانشقاق.
الصراع الفكري والأيديولوجي هو الضمان الوحيد لعدم الانجراف في تيار أوهام الوحدة والمصالحات.