الثورة المغدورة
علي زبيدات – سخنين
إذا كانت اتهامات فاروق القدومي الأخيرة لمحمود عباس ومحمد دحلان صحيحة فإنها مأساة وإذا كانت ملفقة فإن المأساة أكبر. ولن يتغير في جوهر الأمور شيء إذا جاءت هذه الاتهامات في سياق نزاع شخصي بين شخصين قياديين أو بين تيارين داخل حركة فتح. النتيجة الحتمية لهذه الاتهامات وتفاعلاتها تبقى واحدة وهي إسدال الستار على دور حركة فتح التاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وإن دل على شيء فإنه يدل على إفلاس كامل للخط السياسي والإيديولوجي والتنظيمي لحركة فتح. أقول ذلك من غير شماتة. فقد قدمت فتح مئات بل آلاف الشهداء منذ بداية المقاومة وحتى اليوم. وكم مؤلم أن تذهب تضحيات وأرواح هؤلاء الشهداء سدى. وما زالت سجون الاحتلال تأوي الآلاف من المناضلين الذين ينتمون إلى هذه الحركة العريقة. ولكن بالرغم من الحسرة والشعور بالإحباط والغضب، أصبح كل ذلك في ذمة التاريخ.
لكل ثورة يوجد عدوان. الأول عدو خارجي يتجسد عادة بالاستعمار والقوى الرجعية العميلة، وعدو داخلي يتمثل بتلك الطبقات والحركات التي تكون في مرحلة تاريخية معينة في معسكر الثورة وتقوم في بعض الأحيان بدور أساسي في النضال ولكنها مع تغير المرحلة التاريخية تتساقط رويدا رويدا حتى تغادر صفوف الثورة وينتهي بها المطاف في معسكر الأعداء، ويطلق عليها الثورة المضادة. تفيد تجارب الشعوب أن العدو الداخلي أخطر بما لا يقاس من العدو الخارجي. فالعدو الخارجي معروف والصراع معه مباشر ومكشوف. وقد تتلقى القوى الثورية الضربات الأليمة والانتكاسات والهزائم. وقد يطول النضال وترتفع التضحيات. ولكن ما دامت القضية عادلة والجماهير تحتضنها وتحميها، فالنصر على هذا العدو في النهاية سيكون حتميا. أما العدو الداخلي، الذي ينمو ويترعرع داخل الحركات الثورية في غفلة من الزمن فقد يقضي على الثورة ويحولها إلى ضدها بدون مقاومة تذكر.
الثورة الفلسطينية، أو على الأصح ما كنا نسميه مجازا بالثورة الفلسطينية لا تشذ عن هذه القاعدة. فهذه "الثورة" لم ترتق ابدآ إلى مصاف الثورة لا من حيث وضوح رؤيتها وتحديد أهدافها ولا من حيث إيديولوجيتها ولا من حيث ممارساتها النضالية والسياسية. ولكنها، عندما انفجرت في ظل الهزائم العربية، شكلت بصيصا من نور في سماء الأمة المظلم وشكلت شعاعا من الأمل على طريق التحرير. غير أن رياح القيادة جرت بما لا تشتهيه سفن الجماهير. فسرعان ما عادت هذه القيادة إلى الثلم العربي الرسمي، وتبوأت حركات المقاومة بعد سيطرتها على منظمة التحرر الفلسطينية مكانها في جامعة الدول العربية بعد أن نالت الاعتراف من دول هذه الجامعة بشرط أن تحافظ على مستوى متدن من المقاومة وعدم الارتقاء به إلى مصاف الثورة السياسية الاجتماعية. وهكذا سرعان ما بدأت هذه القيادة بمغازلة العدو الخارجي ( الامبريالية والصهيونية) من خلال البرامج المرحلية والمفاوضات كمرحلة تمهيدية حتى الاتفاقيات التفريطية اللاحقة. وفي هذه المسيرة المشؤومة نمت طبقة عميلة لبست قناع الوطنية لفترة معينة. واليوم يسقط هذا القناع أمام الجميع لكي يتبين أن ما اعتبرناه ثورة وهو في الحقيقة لم يكن أكثر من مقاومة أصبح ثورة مضادة. فبعد أن كنا نعتبر الحركة الوطنية الفلسطينية طليعة حركات التحرر العربية أصبحت هذه الحركة الحليف الاستراتيجي للرجعية العربية من المحيط إلى الخليج. وبعد أن كنا نعتبرها رأس الحربة في النضال ضد الصهيونية والامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية أصبحت هذه الحركة حليفا استراتيجيا لهما.
المصيبة عندنا كانت مضاعفة. فالثورات الحديثة الأخرى التي آلت إلى ثورات مضادة قد حققت بعض أهدافها. فثورة أكتوبر العظمى في روسيا مثلا، كانت قبل انحرافها واندثارها قد دكت النظام القيصري الأكثر رجعية ونقلت بلدا إقطاعيا متخلفا إلى مصاف الدول العظمى في فترة قياسية. والثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد استطاعت أن تطرد استعمارا استيطانيا جثم على أرضها 130 سنة قبل أن تتحول وتفتك بأبنائها. وثورة يوليو المصرية استطاعت أن تؤمم القناة وتسدد ضربة قاسية للإقطاع والرجعية قبل أن تعود الطغمة الحاكمة حاليا وترتمي في أحضان الامبريالية والصهيونية. والأمثلة كثيرة من لثورات في الصين وفيتنام إلى إيران وجنوب افريقيا وغيرها. ما عدا في فلسطين. حيث تحولت "الثورة" من ثورة إلى ثورة مضادة من غير أن تحقق إنجازا واحدا يذكر، اللهم إلا إذا اعتبرنا السلطة إنجازا وتمزيق ما تبقى من فلسطين بين ضفة غربية وغزة إنجازا والقتال على سلطة وهمية إنجازا.
الواقع أليم ومحزن ومحبط. ومن لا يعترف بذلك يكذب على نفسه. ولكن، ما دامت القضية الفلسطينية تحافظ على عدالتها. وما دامت الجماهير المشردة المسحوقة تتمسك بقضيتها فتغيير الواقع مهما بلغت قسوته فلن يكون ممكنا فحسب بل حتميا أيضا.
الثورة الفلسطينية لم تمت ولكنها لم تولد بعد وهذه أيام مخاضها.
علي زبيدات – سخنين
إذا كانت اتهامات فاروق القدومي الأخيرة لمحمود عباس ومحمد دحلان صحيحة فإنها مأساة وإذا كانت ملفقة فإن المأساة أكبر. ولن يتغير في جوهر الأمور شيء إذا جاءت هذه الاتهامات في سياق نزاع شخصي بين شخصين قياديين أو بين تيارين داخل حركة فتح. النتيجة الحتمية لهذه الاتهامات وتفاعلاتها تبقى واحدة وهي إسدال الستار على دور حركة فتح التاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وإن دل على شيء فإنه يدل على إفلاس كامل للخط السياسي والإيديولوجي والتنظيمي لحركة فتح. أقول ذلك من غير شماتة. فقد قدمت فتح مئات بل آلاف الشهداء منذ بداية المقاومة وحتى اليوم. وكم مؤلم أن تذهب تضحيات وأرواح هؤلاء الشهداء سدى. وما زالت سجون الاحتلال تأوي الآلاف من المناضلين الذين ينتمون إلى هذه الحركة العريقة. ولكن بالرغم من الحسرة والشعور بالإحباط والغضب، أصبح كل ذلك في ذمة التاريخ.
لكل ثورة يوجد عدوان. الأول عدو خارجي يتجسد عادة بالاستعمار والقوى الرجعية العميلة، وعدو داخلي يتمثل بتلك الطبقات والحركات التي تكون في مرحلة تاريخية معينة في معسكر الثورة وتقوم في بعض الأحيان بدور أساسي في النضال ولكنها مع تغير المرحلة التاريخية تتساقط رويدا رويدا حتى تغادر صفوف الثورة وينتهي بها المطاف في معسكر الأعداء، ويطلق عليها الثورة المضادة. تفيد تجارب الشعوب أن العدو الداخلي أخطر بما لا يقاس من العدو الخارجي. فالعدو الخارجي معروف والصراع معه مباشر ومكشوف. وقد تتلقى القوى الثورية الضربات الأليمة والانتكاسات والهزائم. وقد يطول النضال وترتفع التضحيات. ولكن ما دامت القضية عادلة والجماهير تحتضنها وتحميها، فالنصر على هذا العدو في النهاية سيكون حتميا. أما العدو الداخلي، الذي ينمو ويترعرع داخل الحركات الثورية في غفلة من الزمن فقد يقضي على الثورة ويحولها إلى ضدها بدون مقاومة تذكر.
الثورة الفلسطينية، أو على الأصح ما كنا نسميه مجازا بالثورة الفلسطينية لا تشذ عن هذه القاعدة. فهذه "الثورة" لم ترتق ابدآ إلى مصاف الثورة لا من حيث وضوح رؤيتها وتحديد أهدافها ولا من حيث إيديولوجيتها ولا من حيث ممارساتها النضالية والسياسية. ولكنها، عندما انفجرت في ظل الهزائم العربية، شكلت بصيصا من نور في سماء الأمة المظلم وشكلت شعاعا من الأمل على طريق التحرير. غير أن رياح القيادة جرت بما لا تشتهيه سفن الجماهير. فسرعان ما عادت هذه القيادة إلى الثلم العربي الرسمي، وتبوأت حركات المقاومة بعد سيطرتها على منظمة التحرر الفلسطينية مكانها في جامعة الدول العربية بعد أن نالت الاعتراف من دول هذه الجامعة بشرط أن تحافظ على مستوى متدن من المقاومة وعدم الارتقاء به إلى مصاف الثورة السياسية الاجتماعية. وهكذا سرعان ما بدأت هذه القيادة بمغازلة العدو الخارجي ( الامبريالية والصهيونية) من خلال البرامج المرحلية والمفاوضات كمرحلة تمهيدية حتى الاتفاقيات التفريطية اللاحقة. وفي هذه المسيرة المشؤومة نمت طبقة عميلة لبست قناع الوطنية لفترة معينة. واليوم يسقط هذا القناع أمام الجميع لكي يتبين أن ما اعتبرناه ثورة وهو في الحقيقة لم يكن أكثر من مقاومة أصبح ثورة مضادة. فبعد أن كنا نعتبر الحركة الوطنية الفلسطينية طليعة حركات التحرر العربية أصبحت هذه الحركة الحليف الاستراتيجي للرجعية العربية من المحيط إلى الخليج. وبعد أن كنا نعتبرها رأس الحربة في النضال ضد الصهيونية والامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية أصبحت هذه الحركة حليفا استراتيجيا لهما.
المصيبة عندنا كانت مضاعفة. فالثورات الحديثة الأخرى التي آلت إلى ثورات مضادة قد حققت بعض أهدافها. فثورة أكتوبر العظمى في روسيا مثلا، كانت قبل انحرافها واندثارها قد دكت النظام القيصري الأكثر رجعية ونقلت بلدا إقطاعيا متخلفا إلى مصاف الدول العظمى في فترة قياسية. والثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد استطاعت أن تطرد استعمارا استيطانيا جثم على أرضها 130 سنة قبل أن تتحول وتفتك بأبنائها. وثورة يوليو المصرية استطاعت أن تؤمم القناة وتسدد ضربة قاسية للإقطاع والرجعية قبل أن تعود الطغمة الحاكمة حاليا وترتمي في أحضان الامبريالية والصهيونية. والأمثلة كثيرة من لثورات في الصين وفيتنام إلى إيران وجنوب افريقيا وغيرها. ما عدا في فلسطين. حيث تحولت "الثورة" من ثورة إلى ثورة مضادة من غير أن تحقق إنجازا واحدا يذكر، اللهم إلا إذا اعتبرنا السلطة إنجازا وتمزيق ما تبقى من فلسطين بين ضفة غربية وغزة إنجازا والقتال على سلطة وهمية إنجازا.
الواقع أليم ومحزن ومحبط. ومن لا يعترف بذلك يكذب على نفسه. ولكن، ما دامت القضية الفلسطينية تحافظ على عدالتها. وما دامت الجماهير المشردة المسحوقة تتمسك بقضيتها فتغيير الواقع مهما بلغت قسوته فلن يكون ممكنا فحسب بل حتميا أيضا.
الثورة الفلسطينية لم تمت ولكنها لم تولد بعد وهذه أيام مخاضها.