كما أن بعض الاحداث قادرة على تغيير حياة شخص بصورة جذرية هناك أحداث قادرة على تغيير حياة شعب باكمله بصورة جذرية. مما لا شك فيه أن أحداث عام النكبة والنتائج التي تمخضت عنها قد غيرت حياة الشعب الفلسطيني الى درجة خروجه أو إخراجه عن مسار تطوره التاريخي الطبيعي والإلقاء به في خضم الصراع من أجل البقاء في ظروف قاسية اقل ما توصف به انها تفوق قدراته الطبيعية.
انا الآن لست بصدد تحليل أحداث النكبة وتحديد مسبباتها ونتائجها، فقد كتب الكثير في هذا المجال، والكثير مما هو ضروري لم يكتب بعد.اردت فقط أن الفت الانتباه الى بعض الظواهر السلبية التي لصقت بهذه الذكرى وتلقي بضلالها السلبية الى إمكانية عودة الشعب الفلسطيني الى حياته الطبيعية ككل شعوب الارض.
بالنسبة لنا كجماهير فلسطينية وقعت تحت الاحتلال منذ عام 1948 وبقيت منغرسة على ارضها بالرغم من كل سياسات التهجير من جهة والتهويد من جهة اخرى، هناك ثلاثة أحداث كونت ذاكرتنا الجماعية حتى أصبحت مكونا هاما في هويتنا الوطنية والتي ما زالت تربطنا بباقي جماهير شعبنا الفلسطيني والعربي. هذه الاحداث هي: عام النكبة ويوم الارض وإنتفاضة الاقصى. وليس من باب الصدفة أن تقوم جماهيرنا، بغض النظر عن إنتماءاتها الحزبية ومشاربها الاجتماعية، سنويا بإحياء ذكرى هذه الاحداث بالرغم من النواحي السلبية التي رافقتها مع مرور الزمن.
الذاكرة الجماعية التي تنغرس عميقا في وجدان وعقل الجماهير هي سلاح ضروري في الصراع من أجل البقاء والوجود لكل شعب. ولكن آفة هذه الذاكرة أنه قد يعلوها غبار الزمن وتتعرض للتشوية والاضمحلال.
حسب رأيي، أكبر خطر تتعرض له الذاكرة الجماعية هو تحولها الى مجرد ذكرى وتبتعد عن دائرة الفعل الخلاق الذي يجعل من الذاكرة نبراسا لنضال الشعب، الذي يجعل منها الضوء الذي يضيئ ذلك النفق القاتم الذي يمر به شعبنا حاليا. وأخشى أن ذاكرتنا الجماعية التي خلقتها الاحداث الثلاثة المذكورة تتحول بخطى سريعة لكي تتحول الى مجرد ذكرى روتينية، فصولها معروفة مسبقا. البرنامج هو نفسه: في كل سنة نختار قرية مهجرة من بين القرى ال530 التي دمرت عام النكبة. نستمع الى بعض الخطابات المجترة من بعض القيادات المهزوزة، نهتف ونرفع الشعارات التي تؤكد على ضرورة التمسك بحق العودة، نبكي على الاطلال ومن ثم نعود الى بيوتنا راضين عن أنفسنا ننتظر الذكرى في السنة القادمة لكي نخرج البرنامج نفسه من الدرج، نمسح عنه بعض الغبار ونلمعه قليلا. وهكذا دواليك. ونرتاح الى سحر العادة وراحة الروتين بعد أن تحولت الذاكرة الى مجرد ذكرى والنكبة مستمرة.
الذاكرة لكي تبقى حية بحاجة الى فعل، الى خلق وإبداع. وبهذه المناسبة اقول: بما أن ذكرى النكبة فضية وطنية من الدرجة الاولى يجب عدم تركها لمجموعة معينة مهما بلغ تفاني وإخلاص هذه المجموعة. لا يعقل أن تنفرد جمعية "الدفاع عن حقوق المهجرين" المدعومة من قبل لجنة المتابعة على علاتها بتنظيم هذه الذكرى سنويا ويتم إقصاء قطاعات حية من جماهيرنا.
لقد طرحت بالماضي كما طرح غيري عدة أفكار التي قد تدخل بعض الروح التجديدية على هذه الذكرى وتكون في صلبها. مثلا: إمكانية العودة الفعلية الى إحدى القرى المهجرة من خلال نصب الخيم أو الكرفانات وخوض معركة إعلامية على المستوى المحلي والدولي لإنجاح مثل هذه المحاولة. إلا أن الجمعية أقصت هذه الافكار حتى من غير مناقشتها.
العودة لن تقدم الى شعبنا على طبق من ذهب أو فضة من أحد وهي لن تأتي إلا عن طريق المقاومة والنضال. لذلك مسيرة العودة يجب أن تكون جزءا لا يتجزء من نهج المقاومة، يجب أن تكون رافعة للعمل الوطني الخلاق وألا تنزلق الى روتين العادة كما يحدث اليوم. جماهيرنا على أتم الاستعداد لإستخدام طرق جديدة في النضال ويجب عدم الاختباء وراء مزاعم عدم جاهيزية الجماهير كما يحدث في باقي المناسبات.
لماذا بعد 12 مسيرة عودة لم يتم حتى الآن أختيار مدينة فلسطينية مهجرة بالكامل مثل طبريا، صفد، بيسان او جزئيا مثل يافا، حيفا، عكا، اللد والرملة؟ لماذا لم يتم حتى الآن إختيار قرية تقوم على أنقاضها مستوطنة صهيونية مثل الخالصة، الجاعونة، أجزم وغيرها الكثير؟ هل من باب الصدفة أم لتحاشي المواجهة مع المستعمرين؟ أم خوفا من عدم الحصول على تصريح من الشرطة؟
النكبة أكبر من تحصر في قوالب ضيقة معدة مسبقا، النكبة أكبر من أن تصبح مجرد ذكرى سنوية. إننا نعيش النكبة يوميا، نتنفسها مع الهواء وتجري في عروقنا كالدماء وتستحوذ على عواطفنا وعقولنا فلماذا نخاف أن نعبر عنها؟ هل يجب علينا أن نكبتها داخلنا ونقمع كل محاولة لإنطلاقها أم علينا تفجيرها حمما وبراكين في وجه البشرية التي تفقد إنسانيتها؟