منذ فترة طفا على السطح موضوع قديم جديد هوالخدمة الوطنية. وقد قيل تقريبا كل ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع من كلا الطرفين. أو على الاصح أعيد تكرار وإجترار ما قيل في هذا الموضوع على الاقل منذ عقد من الزمن. واقصد بالطرفين هنا، الطرف الاول: دولة إسرائيل ممثلة بالحكومة والكنيست وكافة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من جهة، والطرف الثاني: الوسط العربي أيضا ممثلا بكافة مؤسساته من لجنة المتابعة العليا والاحزاب السياسية والجمعيات المدنية وحتى جماهير الشباب المعنيين مباشرة بهذه الخدمة.
وأنا هنا لست بصدد تكرار ما قيل هنا وما رد عليه هناك. ولماذا يسعى الطرف الاول الى فرض الخدمة المدنية بينما يعارض الطرف الآخر تلك الخدمة ويرفضها.
بإختصار شديد، تقول السلطة: أيها العرب تطالبون بالمساواة في الحقوق عليكم أولا أن تكونوا متساوين بالواجبات أيضا، فبينما يخدم الشاب اليهودي بالجيش فعلى الاقل يجب على الشاب العربي أن يقوم بالخدمة المدنية، وعندها فقط تنعمون بالمساواة المنشودة. فيرد الجانب الآخر: أن الحقوق غير مرتبطة بالواجبات بل هي نابعة مباشرة من المواطنة، والخدمة المدنية لا تختلف جوهريا عن الخدمة العسكرية.
تريد السلطة من خلال فرض الخدمية المدنية أن تضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جهة هي لا تثق بالشباب العرب لكي تدمجهم بالخدمة العسكرية مباشرة، وهي أصلا لا تثق بتلك الفئات التي فرضت عليها الخدمة الاجبارية ولا بهؤلاء الذين تجندوا تطوعا وتزج بهم في وحدات منعزلة وتقصيهم عن مواقع القرار حتى ولو تبوؤا رتبا عالية، ولكنها من جهة أخرى تريد امتصاص نقمة الشباب العرب الناجمة عن التميز والقمع والتهميش والبطالة وتحاول أن تستعملهم في الخدمات المدنية لكي يتفرغ الشباب ، خصوصا في حالات الطوارئ، للمهمات القتالية. وبذلك توفر أعداد أكبر من القوى البشرية للجيش وفي الوقت نفسه تخفف من التكاليف.
من جهة أخرى تقوم القيادات العربية بدور مزدوج، فهي تتمسك بالمواطنة الاسرائيلية من جهة وترى بها ضمانا للحصول على الحقوق المتساوية بغض النظر عن الخدمة العسكرية "الواجبات" ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تتغاضى عن الموقف الشعبي الرافض للخدمة بكافة اشكالها ومسمياتها. فنراها تتخبط بين هذين الموقفين وتتكلم بلغتين. وفي الحقيقة لا ادري كيف تستطيع هذه الزعامات أن تمسك الحبل من الطرفين: تتشبث بالمواطنة الاسرائلية المنقوصة من جهة وتدعي أن الخدمة المدنية ترمي الى تشويه وضرب هويتنا القومية وأنتزاع هويتنا الفلسطينية وإنتمائنا للشعب الفلسطيني.
لقد لمست هذا التناقض الصارخ عندما شاهدت الفلم الوثائقي القصير الذي أعدته "جمعية الشباب العرب – بلدنا" "والائتلاف الشبابي ضد الخدمة المدنية" بعنوان "قيادات عربية ضد الخدمة المدنية" والذي شمل قيادات سياسية واجتماعية ودينية. هذا الفلم هو أسوأ وسيلة للتعبير عن رفض مخطط الخدمة المدنية بالرغم من النوايا الحسنة للجهات التي أصدرت الفلم ولبعض المشاركين الذين ما كان ينبغي أن يزجوا في مثل هذا العمل العقيم. وسيكون له حسب رأيي نتائج سلبية على مجمل النضال الشعبي ضد هذا المخطط وذلك للأسباب التالية:
1- لا يوجد مصداقية لكلام الزعامة السياسية وخصوصا أعضاء الكنيست من بينهم. فمن يريد أن يدعو الاخرين الى رفض الخدمة المدنية عليه أن يبدأ بنفسه أولا. اليست خدمتهم في اروقة الكنيست هي خدمة مدنية في اسوأ اشكالها؟ فإذا كانت خدمة شاب ضائع لإسباب مادية او إجتماعية هي خطر على هويتنا الوطنية ومؤشرا على اسرلتنا، فمال بال عضو الكنيست الذي يهرول لخدمة هذه المؤسسة عن وعي وعن سابق إصرار ويلتصق بالكرسي العزيز على نفسه؟ فعندما يقول عضو الكنيست جمال زحالقة في الفلم: "انا مش خادم في الخدمة الوطنية الاسرائيلية" فهو اما انه يكذب علينا وعلى نفسه أيضا وإما انه لا يدرك ما معنى الخدمة الوطنية. لنسأل انفسنا بصراحة وليحاول كل واحد منا أن يجب على السؤال بجرأة: اليست الخدمة في الكنيست هي خدمة وطنية إسرائيلية؟ وعندما يتباكى الشيخ ابراهيم صرصور على فئة الشباب وهم المادة الحية في شعبنا فأي نموذج يضعه بين أيديهم؟ لا تخدموا بالخدمة الوطنية ولكن هلموا بجماهيركم للتصويت لي حتى أصل الى كرسي الكنيست؟؟ وعندما تصرح عايدة توما: انه "مخطط لضرب هويتنا الوطنية" اليس الاعتراف بدولة اسرائيل العنصرية والكولونيالية كتجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره هو مخطط أعتى واشرس سدد ضربة قاضية لهويتنا الوطنية ولا يزال يا رفيقة؟
2- الفلم لا يفتقد للمصداقية وغير مقنع (استثني أقوال المطران عطاللة حنا الصادقة) فحسب، بل ينم عن نزعة استعلائية وعظية وكأن هذه القيادات تعرف كل شيء، تنطق بالجواهر والحكم وينبغي الاصغاء لها. كان أحرى بالذين عملوا الفلم أن يتكلموا مع الشباب المعنين مباشرة بالقضية والذين رفضهم للخدمة الوطنية نابع من اعماق وجدانهم.
3- يفتقد الفلم الى اية مسحة فنية جمالية. حتى الفلم الوثائقي يجب أن يبقي فسحة كافية للخيال، للإبداع. ما نراه هنا لقطات مكبلة بقيود الشعارات الرنانة تدخل الى الأذن اليمين لكي تخرج مباشرة من الأذن الشمال.
رفض الخدمة المدنية لكي يكون صادقا ومؤثرا يجب أن يكون نابعا من رفض الاعتراف بشرعية المؤسسات التي تحاول فرضه. ويجب الاستعاضة عن هذه القيادات بقيادات شابة واعية تتحلى بروح التمرد والعنفوان.
إن كل قيادة شابة لا تطرح نفسها بديلا للقيادات الراهنة المهترئة سوف تؤول الى الفشل.