الكبار يلعبون والصغار يصفقون
لعل والغوغائية التي رافقت وتلت المواجهة الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل وما انبثق عنها من لغط وهرج ومرج كانت أهم من المواجهة نفسها. خرج أنصار حزب الله ومعسكر "المقاومة" من جلودهم فرحا وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها. فهذه العملية قلبت موازين القوى راسا على عقب وشطبت كافة الخطوط الحمراء وكأنها الخطوة الأولى في مسيرة أل200كم (المسافة بين حدود لبنان والقدس). أما معارضو هذا المعسكر، الذين نطق بإسمهم وزير الخارجية البحريني، فقد أدانوا العملية "خوفا" على الشعب اللبناني والدولة اللبنانية ولكن في الحقيقة دعموا حليفهم الإسرائيلي. وكالعادة حاول "الممانعون" زج كافة المواقف في إحدى الزاويتين: إذا لم تكن مع "المقاومة" فأنت حتما مع إسرائيل والرجعيين العرب. وقد سارع أحد المتفذلكين على الفيسبوك الذي يعرف موقفي جيدا من حزب الله وحلفائه ومن إسرائيل وحلفائها مستفزا بسؤاله: هل أنت مع المقاومة أم مع خالد بن أحمد آل خليفة؟ وبما أني كنت مشغولا في حينه في أمر خاص (فحوصات في المستشفى) أجبته محاولا التخلص منه، بأن كل هذه الهيزعة ليست سوى مسرحية. الأمر الذي إستشاطه غضبا وتهجما. وبعدما إزداد الحاحا وعدته بالرد المفصل عندما أجد الوقت لذلك. بالرغم من معرفتي لهذا الشخص بأنه غير قادر على قراءة المقالات المفصلة لطولها ويكتفي بالتعليقات المستفزة على المنشورات القصيرة. لذلك أرى بجوابي هذا غير موجه لشخص بعينه بل لكل من يقرأ المقالات الهادفة ويناقشها بشكل موضوعي.
قال شكسبير قبل اربعة قرون:" الدنيا مسرح كبير وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح". وقد تقبل هذه المقولة العديد من المثقفين بغض النظر عن تياراتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية المتناقضة. المسرحية بحد ذاتها ليست مصطلحا ايجابيا أو سلبيا. أنا، وربما كان هناك غيري الكثيرون، لم أتقبل هذه المقولة المبهمة من غير نقد وتمحيص. شكسبير لم يتطرق الى الدور الذي يلعبه الممثلون (كل الرجال وكل النساء). هل هو دور إرتجالي أم يوجد هناك سيناريو، نص مسبق؟ وإن وجد فمن الكاتب يا ترى؟ ومن هو المخرج والمنتج لهذه المسرحية الكونية؟ وطبعا بعد مرور أربعة قرون غزت التكنولوجيا من بين ما غزته المسرح، فهناك المسؤول عن المؤثرات الصوتية والضوئية والملابس والمكياج والتي من شأنها أن تقلب المسرحية رأسا على عقب. وكيف يتعامل هذا المسرح الكوني مع أدوار البطولة والكومبارس.
لنقل أن مقولة شكسبير هذه في أحسن حالاتها مقولة إشكالية. على كل حال، لنعود هنا إلى المواجهة الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل: تعريف المسرحية هنا اقتصر على بعد واحد فقط. حسب هذا التعريف المسرحية هي حكاية ملفقة، كاذبة هدفها خداع الناس. والممثل القدير هو الذي يقوم بدوره بشكل جيد ومقنع. من هنا أشد ما يغيظ "معسكر المقاومة" أن تصف هذه المواجهة وكأنها مسرحية. بينما تستطيع بل يجب أن تصف وبكل حرية محاولة إسرائيل نفي تكبدها خسائر بشرية بالمسرحية الفاشلة.
للتذكير فقط: موقفي من حزب الله مبني على ثلاث نقاط أساسية قلتها في الماضي بشكل علني وها أنا أعيد ذكرها الآن غير عابئ بما قد تثيره من خلاف عند أقرب الأصدقاء.
أولا: تدخلة الدموي لقمع تطلعات الشعب السوري للحرية والكرامة بحجة محاربة التنظيمات الإرهابية والتكفيرية ودعم النظام السوري "الممانع".
ثانيا: ايديولوجية وتركيبة الحزب الطائفية. لا يمكن لحزب طائفي مهما كان أن يمتلك رؤيا تقدمية أو أفق ثوري.
ثالثا: تجيير القضية الفلسطينية لمصالح إقليمية وطائفية .ومواجهة العدو الصهيوني من هذا المنطلق.
تحليلي الشخصي لما حدث إنها بالفعل مسرحية، مسرحية على صعيد دولي يلعب بها الكبار أدوار البطولة ويقوم الصغار (الكومبارس) بالتصفيق. من الواضح للجميع أن الهدف الوحيد لرئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو في الانتخابات السابقة والحالية على حد سواء هو البقاء على قيد الحياة ليس على الصعيد السياسي فحسب بل على الصعيد الشخصي أيضا لكي لا يدخل السجن لسنوات طويلة. فهو من أجل ذلك مستعد أن يعمل كل يستطيعه وكل ما يتفتق به تفكيره. في الانتخابات السابقة تلقى دعما غير محدود من قبل دونالد ترامب بنقل السفارة الامريكية إلى القدس، الاعتراف بضم الجولان وحق إسرائيل بضم مستوطنات الضفة. ومن جهته قدم بوتين هدايا ثمينة لصديقه نتنياهو بإعادة جثمان الجندي المفقود زخاريا باومل بعد 39سنة وقبلها إعادة الدبابة الاسرائيلية التي فقدت في نفس المعركة، وساعة ايلي كوهن، وإطلاق أيدي الطيران الاسرائيلي لكي يقصف سوريا من غير أن يحرك ساكنا، حتى بعد أن سببت إحدى هذه الغارات اسقاط طائرة روسية ومقتل طاقمها. ولم تقصر السعودية ودول الخليج بتقديم شتى المساعدات لاعادة انتخاب نتنياهو. ولكن كل هذه المساعدات لم تكن كافية لكي يحقق نتنياهو انتصارا في ساحة الانتخابات.
اليوم تتجند كل هذه الاطراف مجتمعة وكل على حدة للقيام بمحاولات جديدة ومبتكرة تضمن بقاء نتنياهو . فمن المتوقع أن يقوم ترامب بخطوة جديدة غير مسبوقة مثل الإعلان عن معاهدة دفاع مشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل. أما روسيا (حليف المقاومة) فانها تلعب دورا أشد قذارة من الموقف الأمريكي.
هكذا ينتج لنا مسرح اللامعقول السائد حاليا مسرحية سريالية بالغة التعقيد إلى درجة عدم تصديقها. لا أحد يدرك تفاصيل مشاهدها لأنها تحاك في الظلمات، ولكن التفكير العميق والتحليل المنطقي قد يلقي الضوء على بعض خيوطها. يعلم نتنياهو أن تصعيد الصراع مع إيران يعود عليه بمزيد من الاصوات الصهيونية، ولكنه يعلم أيضا أنه لا يستطيع التصعيد اللامحدود والوقوع في ورطة حرب ليس مستعدا لها ولا يعرف عواقبها. فهو يصعد من جهة و يفرمل قبل الوصول إلى مرحلة الانفجار من جهة أخرى. هكذا ضرب في العراق وسوريا ولبنان خلال اسبوع واحد، في الوقت نفسه أعلن ترامب عن استعداده لمقابلة روحاني لمناقشة ملفها النووي. بينما كانت مهمة الصديق الآخر بوتين أن يطمئن ايران وحزب الله بأن اسرائيل غير معنية بحرب واسعة، و كبادرة حسن نية ألغى الجيش الإسرائيلي مناورات واسعة كان سيقوم بها على الجبهة الشمالية.
في ظل هذه الأجواء حصلت المواجهة الاخيرة بين حزب الله وإسرائيل. مما أتاح للأول أن يتباهى بالنصر الإلهي وأتاح للثاني أن يتبجح بمواجهة الخطر على الأمن القومي من غير وقوع خسائر بشرية في صفوف الجنود الإسرائيليين. مسرحية سريالية مع نهاية سعيدة (happy end).
وأخيرا، في ظل هذا الزمن التعيس وبغض النظر عن المسرح والمسرحيات والممثلين والأدوار والرسائل والغايات غيرها وغيرها.. يحق للشعوب العربية (بتنظيماتها وأفرادها مهما بلغت من انتهازية ) أن تدافع عن نفسها ضد كل إستعمار وضد كل استبداد.