استمرارية النضال بين القول والفعل
علي زبيدات - سخنين
لا شك أننا جميعا قد سمعنا بالشعار الذي جرى على لسان قادة لهم باع طويل في النضال في الماضي والحاضر، محليا ودوليا والذي يحث المناضلين على عدم التفريط به وهو: من الافضل كلام أقل وفعل أكثر. حتى اصبح هذا الكلام من باب المفارقة يردده من لا يكف عن الكلام في مناسبة أو من غير مناسبة وعلى كافة المنصات بينما يكاد فعله أن يكون معدوما.
طبعا مع احترامي لهذه المقولة التي تعتبر خلاصة لنضالات طويلة ومريرة خاضتها الشعوب على مر الأجيال إلا أنني سأحاول، من وجهة نظري، أن اضع هذه المقولة في سياقها الصحيح. أولا، انا لا احبذ الفصل بين الكلام والفعل إلا لضرورة التقصي والتحليل وفي الواقع من المستحيل الفصل بينهما. فالكلام عندما يسود الصمت يصبح عملا. والعمل قد يكون أسوأ من الكلام عندما يكون خاطئا من حيث المبدأ. إذن قبل أن نتبنى شعار: كلام أقل وفعل أكثر، ينبغي أن نحدد أي كلام نقصد وأي فعل نعني. اذا كان الكلام عقلانيا، تحليليا، هادفا وتثقيفيا فهو ضروري جدا ويسبق العمل النضالي وذلك ينسجم مع قول لينين: لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. النظرية الثورية ليست طق حنك وتصفيط كلام كما هي عليه اليوم بل هي دليل ومرشد للعمل وبدونها يصبح العمل عشوائيا.
في معظم محاورات أفلاطون كان سقراط يطالب محاوريه الكف عن إلقاء خطابات طويلة ومنمقة ويطلب منهم أن يكون الحوار قصيرا على شكل أسئلة وأجوبة حتى لا يضيع موضوع الحوار. فكان غالبا ما يقاطع الخطباء ويوجه لهم الأسئلة المباشرة والمحرجة. ولكن سقراط نفسه وخصوصا في الحوارات المتأخرة كان يلجأ إلى صيغة الخطاب المطول حتى يعطي الفكرة المطروحة للنقاش حقها. لم يكن هناك تناقض في موقف سقراط هذا كما يبدو من الوهلة الأولى، فهو ضد الخطابات عندما تكون فارغة والتي كان يبرع بها السفسطائيون وغيرهم. ولكنه كان مع الخطاب الهادف الصادر عن معرفة.
كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة كمدخل لتناول موضوع الكلام والفعل على ساحتنا السياسية المحلية. نحن نتكلم كثيرا وغالبا ما تكون خطاباتنا "ثرثرة ثورية" خالية من أي مضمون ثوري حقيقي وتكون أفعالنا قليلة ونادرا ما ترتقي إلى مستوى الحدث. بالرغم من أننا ندرك هذه الحقيقة المرة ونتناولها في جلساتنا الخاصة ودوائرنا المغلقة إلا أننا لا نعترف بها علنا ولا نحاول تغييرها. في كل مناسبة وطنية يطلب من المتحدثين الإيجاز والتقيد بالوقت ولكنهم سرعان ما يحررون ألسنتهم من لجامها وتنطلق بدون توقف. وعندما يقررون تقليص قائمة المتكلمين في إحدى المناسبات نرى القائمة تطول بعفوية لا يعرف سببها أحد. وقد يعترف هؤلاء الخطباء وخصوصا الديماغوجيين منهم بالتقصير في العمل ولكنه عندما يتعرض لبعض النقد نراه ينتفخ زهوا بما قدمه من أفعال ويتهم منتقديه بالتجني عليه وعلى أفعاله.
لقد أصبح من المتعارف عليه أن جماهيرنا تحيي سنويا ثلاث مناسبات وطنية مركزية: يوم الارض في 30 آذار، هبة القدس في الأول من تشرين الأول، ومسيرة العودة في يوم احتفال الإسرائيليين باستقلالهم. وفي كل مناسبة من هذه المناسبات تراودني التساؤلات نفسها: هل نقول في خطاباتنا شيئا جديدا لم نقله من قبل؟ هل نفعل شيئا جديدا لم نفعله من قبل؟ وللاسف الشديد يكون الجواب دائما: لا جديد تحت الشمس. السؤال الذي يقلقني دائما ولا أجد الجواب الشافي عليه هو: لماذا إذن نستمر في إحياء هذه المناسبات سنة بعد سنة؟ هل هي العادة التي تريحنا بسحرها وتخفف عنا تأنيب الضمير والشعور بالذنب لعجزنا عن تحقيق أهدافنا؟ أم هي قوة الدفع التي أنتجتها صدمة المناسبة الأولى؟ أم هي الاستمرارية التي ترافق الحياة في كل الأحوال؟ نعم، لقد أصبحت مناسباتنا هذه تقليدية ليس بالمعنى الإيجابي للكلمة أي أنها تتكرر سنويا وتحافظ على نوع من زخمها فحسب بل أيضا تقليدية بمعنى خلوها من الإبداع والتجديد والانتقال ولو خطوة إلى الأمام.
لنذكر مثلين على ذلك نعيش أجواءهما هذه الأيام. الأول: تضامننا ودعمنا للحركة الأسيرة المضربة عن الطعام، حيث يتفق الجميع بما فيهم الشخصيات والمؤسسات صاحبة القرار بهذا الشأن بأن هذا التضامن وهذا الدعم أبعد ما يكون على أن يشكل ضغطا على الحكومة الاسرائيلية لكي تلبي مطالب الأسرى الحياتية والانسانية ولا اقول السياسية.
المثل الثاني: مسيرة العودة التي تقف على الأبواب وتستقطب كل سنة الآلاف من كافة ربوع فلسطين وتنتقل كل سنة من قرية مهجرة إلى أخرى ولكنها تحافظ على شكلها التقليدي الصارم، رافضة كل فكرة إبداعية جديدة قد تضفي بعدا مختلفا على حق العودة. إحدى هذه الأفكار التي تطرح، خارج الاطار، كل سنة ويتم تجاهلها تماما واقصائها حتى عن النقاش هي إعادة بناء قرية واحدة من ال 530 قرية مهجرة ولو بشكل رمزي بدل زيارتها والبكاء على أطلالها.
لقد آن الأوان لإعادة التوازن بين القول والفعل في نشاطاتنا كشرط أولي لاستمرارية نضالنا الوطني العادل.