حق العودة بين النوايا الحسنة والطريق إلى جهنم
في 29 حزيران افتتح المهرجان الثالث تحت عنوان "حق العودة والسلام العادل" في قاعة الأندلس. وفي اليوم التالي انتقل المؤتمر إلى عكا القديمة حيث تواصلت جلساته (الأكاديمية) في يوم درسي طويل. وقد أكد جميع المشاركين على عدالة حق العودة وعلى قدسيته والتشبث به وعلى مقاومة كافة المحاولات للتفريط به. باختصار كانا يومان حافلين بالشعارات المعهودة حول حق العودة التي يكررها الجميع حتى أولئك الذين لا يؤمنون بحق العودة الا لفظيا وللاستهلاك المحلي والذين تغص بهم الساحتين الفلسطينية والعربية.
ولكن بعد أن تبدد دخان الشعارات وبعد أن ركد الغبار المتناثر من وقع الإقدام على رمال العودة الوهمية وبعد أن خفت صوت الزجال الشعبي وموسيقى الفرقة الموسيقية، بدت لنا الصورة الحقيقية، صورة قاتمة محزنة سيطرت على المؤتمر من لحظة افتتاحه إلى لحظة إغلاقه. صورة بثت رسالة واضحة لكل من يقرأ بين السطور، وهي: أن حق العودة مستحيل بدون لثم يد دولة إسرائيل الممدودة للسلام، بدون التفاهم مع "الآخر" وسبر مخاوفه. لقد سيطرت على هذا المؤتمر من أوله إلى آخره روح "التصور المستقبلي للجماهير العربية" و "وثيقة حيفا" التي تهدف كما روج مصدروها إلى فتح حوار شامل مع الدولة ومع الأغلبية اليهودية تؤدي إلى مصالحة تاريخية بين الشعبين. لا أبالغ إذا جزمت إن المؤتمر قد تحول إلى نقيضه، إلى "مؤتمر اللاعودة الثالث". لقد وجه المؤتمر خطابه (كما سأشرح لاحقا) ومن خلال الجلسات الثلاثة إلى الفئات الليبرالية (اليسارية) اليهودية التي شارك بعضها في تنظيم المؤتمر ومن خلالهم إلى المؤسسات الرسمية ولم يوجه هذا الخطاب إلى أصحاب الشأن، إلى اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين. ما قيل في المؤتمر لا يعبر عن أماني ونضال اللاجئين بالعودة بقدر ما تحب هذه الفئات سماعه من أجل تبديد مخاوفها.
لقد فشلت منظمة التحرير الفلسطينية في جعل حق العودة مطلبا سياسيا ملحا وإخراجه من دائرة الشعارات المقدسة إلى معامع المعركة من أجل تحقيقه على ارض الواقع، حتى انه وفي خضم المفاوضات التسووية كانت أطراف مركزية منها تتآمر على حق العودة وتعمل على إجهاضه. كذلك فشلت باقي التنظيمات الفلسطينية والأحزاب السياسية بهذه المهمة، وألان جاء دور ما يسمى بالجمعيات الأهلية أل NGO’s.
قام على تنظيم المؤتمر 4 جمعيات: 1) جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين. 2) جمعية ذاكرات. 3) معهد أميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية. 4) اتجاه : اتحاد جمعيات عربية أهلية. بعض هذه الجمعيات تتبنى علنا الحل القائم على الدولتين بالرغم من معرفتها بإجحاف هذا الحل للجانب الفلسطيني وهضم حقوقه بما فيها حق العودة. وبالرغم من إن هذه الجمعيات تحمل دولة إسرائيل مسؤولية النكبة ونتائجها الا أنها لا ترى ثمة تناقض بين وجود دولة إسرائيل في ذاته وبين النكبة ونتائجها. فهي تعترف بشكل أو بآخر أن دولة إسرائيل هي:"تجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره" ولذلك من الممكن تحقيق حق العودة في إطار الدولة الصهيونية.
الجلسة الأولى كانت بعنوان: "حق العودة في الخطابين الفلسطيني والإسرائيلي" ترأسها الدكتور مسعود إغبارية بمشاركة رائف زريق، أمل جمال وأودي أديب وجميعهم محاضرون في الجامعات الاسرائيلية. في هذه الجلسة لم نسمع خطابا فلسطينيا أصيلا، بل سمعنا في أحسن الأحوال خطابا عربيا إسرائيليا متخبطا في هويته الوطنية وخطابا إسرائيليا (يساريا). لقد أسهب الدكتور رائف زريق بالكلام عن اتجاهين يميزان الخطاب الفلسطيني: الواقعية التي تعتمد على موازين القوى المختلة لصالح الطرف الإسرائيلي والتي تبرر مساومة الطرف الفلسطيني وقبوله بالحد الأدنى أو اقل من ذلك. والاتجاه الذي يعتمد بالأساس على عدالة القضية ولكنه عاجز عن المواجهة. للخروج من هذا المأزق دعا زريق إلى حل مشكلة اللاجئين كمشكلة إنسانية بحتة لإنهاء معاناتهم الإنسانية اليومية حتى ولو كان ذلك بشكل مرحلي ونسبي. ودعا إلى التركيز على قضايا المهجرين في الداخل بصفتها الحلقة الأسهل للتحقيق.
أما أمل جمال فقد أسهب بالكلام عن قانون العودة اليهودي مقابل حق العودة الفلسطيني، حتى ظن السامع أن موضوع الجلسة يدور حول قانون العودة الصهيوني، فقد ادعى أن الحركة الصهيونية قد نجحت في ترويج حق اليهود بالعودة إلى فلسطين وجعله حقا يسبق قيام الدولة الصهيونية نفسها ومستقل عنها واستطاعت أن تقنع العالم بعدالة حقها هذا، بينما ما زال حق العودة الفلسطيني يراوح في مكانه وما زال الفلسطينيين أسرى مفهومهم الرومانسي لهذا الحق. والنتيجة المنطقية التي يقود إليها تحليل الدكتور المذكور، إن حق العودة الفلسطيني لا أمل له بالتحقيق إذا تصادم مع قانون العودة الإسرائيلي. لقد تجاهل المتكلم أن حق العودة الفلسطيني لا علاقة لها بالحلول السياسية المطروحة، وهو حق مطلق ينبع من صلب القيم الإنسانية التي تنص عليها كافة القوانين الدولية وينبع من حق الإنسان بالحياة والعيش بأمان وسعادة في بيته. إما قانون العودة الصهيوني، فهو قانون يعبر عن حق مزيف سنته دولة كولونيالية هي أصلا لا تمتلك الحق بالوجود.
أودي أديب بدأ كلامه بالتنصل من ماضيه الثوري، حيث كان في شبابه عضوا في منظمة يهودية يسارية معادية للصهيونية، قاده نشاطه إلى السجن لعدة سنوات، وأدعى أن الخطاب الفلسطيني لا يصل إلى الجمهور الإسرائيلي وأن الكلام الفانوني (نسبة إلى فرانس فانون) حول إلغاء الواقع الكولونيالي يقود إلى طريق من غير مخرج. ودعا إلى توحيد الخطابين على أساس عدم إلغاء طرف الطرف الآخر. هذه النظرة نابعة من أن إسرائيل تجاوزت المرحلة الصهيونية، أي المرحلة الكولونيالية وعلى الخطاب الفلسطيني بالمقابل أن يتغير بحيث يواكب وينسجم مع هذا التغيير الذي طرأ على تطور الشعب الإسرائيلي. غير أن الواقع يقول العكس من ذلك تماما وهو أن دولة إسرائيل كانت وما زالت وستبقى دولة صهيونية كولونيالية حتى يتم إلغائها.
الجلسة الثانية بعنوان: "التحديات التي تواجه حق العودة محليا وعالميا" ترأسها سهيل ميعاري وشارك فيها البروفسور نديم روحانا، الناشطة في ذاكرات (زوخروت) نورما موسى والمحامي حسين أبو حسين.
لقد كانت هذه الجلسة منصة ممتازة للبروفسور نديم روحانا لكي يروج للوثيقة التي صدرت مؤخرا عن معهد مدى الكر مل الذي يترأسه والمعروفة بوثيقة حيفا. لقد أسهب البروفيسور روحانا بالكلام عن المصالحة بين الشعبين وقال يوجد هناك خياران أما الشعب الفلسطيني: الأول، تسوية مع دولة إسرائيل تعتمد على ميزان القوى، وبالطبع في هذه الحالة فإن التسوية ستكون في صالح إسرائيل لأن ميزان القوى لصالحها. والثاني، خيار المصالحة مع الشعب اليهودي الإسرائيلي. وهذا يعني قبول اليهود في إقامة دولة قومية يهودية، ويعني أيضا أن الطرفين مسئولان عن عدم تجسيد حق العودة، لا بل أن مسؤولية الطرف الفلسطيني تزيد عن مسؤولية الطرف الإسرائيلي، لأن الطرف الفلسطيني لا يتعامل مع مخاوف الشعب الاسرائيلي، لأن هذه المخاوف حقيقية خصوصا في حالة تنفيذ حق العودة، لذلك يجب على الفلسطينيين إقناع الإسرائيليين بأن حق العودة لن يكون على حسابهم بل على العكس لمصلحتهم حتى تتم المصالحة في إطار دولة ثنائية القومية.
المحامي حسين أبو حسين دعا إلى فصل حق العودة عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني مدعيا أن حق تقرير المصير هو مطلب سياسي قد يتجسد بأشكال مختلفة حسب ما تتمخض عنه المفاوضات بين الطرفين ويكون على حساب حق العودة. لذلك يجب عدم ربط حق العودة بحق تقرير المصير. هذا الأمر قد يكون صحيحا إذا جزمنا مسبقا أن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني يعني إقامة دويلة هزيلة على جزء ضئيل من فلسطين التاريخية. ولكن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني لا يعني شيئا بدون انجاز حق العودة وكل محاولة للفصل بينهما لن تكون سوى نتيجة للإيمان باستحالة تحقيق حق العودة كاملا. لقد قال المحامي حسين أبو حسين إن الحركة الصهيونية قد سطت وسرقت وطنا كاملا، وبصفته محاميا يجب عليه أن يعرف أنه يجب ملاحقة السارق وتقديمه إلى المحاكمة ومعاقبته على الجريمة التي اقترفها، ولكنه انضم إلى الجوقة التي تنادي بتفهم مخاوف هذا السارق لكي ينجو بفعلته بل ومكافأته أيضا.
ربما كانت نورما موسى من منظمة زوخروت اليهودية المؤيدة لحق العودة أكثر المتكلمين صدقا مع نفسها ومع غيرها ولا استغرب إنها كانت تشعر بالرضا عن مجريات المؤتمر، فالجميع تعامل مع مخاوفها وأسمعها ما تحب أن تسمعه. قد أتفهم المشاركين اليهود في المؤتمر وأتفهم دوافعهم لتأييد حق العودة، البعض قد يرزح تحت وطأة تأنيب الضمير الذي يقلق راحتهم وينغص عليهم معيشتهم، وبعضهم توصل إلى نتيجة مفادها انه لا يمكن حل النزاع العربي الصهيوني بدون حل قضية اللاجئين. وجاء هذا المؤتمر ليقدم لهم راحة الضمير من غير أن يقدموا شيئا بالمقابل. فما زالوا يعيشون في بيوت بنيت على أنقاض البيوت التي دمرتها دولتهم وما زالوا يسكنون في المستوطنات التي بنيت على أراضي القرى المهجرة، وإذا كان لأحدهم أقارب في أمريكا أو في أي مكان آخر في العالم، فإنهم يستطيعون لم شملهم خلال دقائق حسب قانون العودة، وما زالوا يتمتعون بكافة الامتيازات التي تمنحها لهم الدولة المؤسسة الصهيونية.
إن حق العودة الفلسطيني يعني من ضمن ما يعنيه حق اللاعودة للمستوطنين الصهاينة القادمين. إن حق العودة الفلسطيني يعني إلغاء قانون العودة الصهيوني، وإلا فلن يعدو كونه سوى دجل ونفاق. عندما تزول الطبيعة الكولونيالية لكل مواطن يهودي في هذه البلاد فقط يمكن الكلام عن عيش مشترك، وهذه الطبيعة لا يمكن أن تزول إلا مع زوال الدولة الكولونيالية ذاتها.
الجلسة الثالثة اقتصرت على الإعلان عن إقامة "ائتلاف حق العودة وبيان الاستعداد لإحياء ذكرى ستين عاما على النكبة". في هذه الجلسة تكلم كل من أمير مخول ومحمد كيال وسلمان ناطور وايتان برونشتاين عن الجمعيات المنظمة وشملت تلخيص وتوصيات. ما يهمنا هنا هو الإعلان عن"إقامة ائتلاف حق العودة" تكون نواته الجمعيات الأربع المذكورة ويكون مفتوحا أمام جمعيات أخرى، أحزاب سياسية وشخصيات مستقلة بغض النظر عن اتجاهاتها الفكرية وانتماءاتها السياسي. وكما يقولون بأن المكتوب يقرأ من عنوانه فإن مثل هذا الائتلاف لن يكون عاجزا عن تعزيز حق العودة فحسب بل سوف يلحق به الاضرار ايضا.
أذكر أن مؤتمر العودة الأول الذي عقد قبل ثلاثة سنوات في حيفا قد شارك به المئات من المهجرين الأصليين من بينهم من كان يعتمر الكوفية والعقال وشارك فيه مندوبون من الشتات الفلسطيني ومن الضفة الغربية، هذا العدد قل من الناحية الكمية والكيفية في المؤتمر الثاني الذي عقد في الناصرة، أما المؤتمر الأخير فقد غاب عنه المهجرون واقتصر على الجمعيات والناشطين وبعض المهجرين النخبويين.
ولكي لا يفهم كلامي هذا (وهو لا يتناول سوى جانب ضئيل مما جرى في المؤتمر) بعيدا عن هدفه ولكي لا يؤول كل واحد كلامي على هواه فأنا أتحدى المنظمين أن ينشروا كلمات المشاركين كاملة على الملأ لكي يأخذ النقاش والنقد حقهما.